..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

المسافة بين القول والعمل

سلمان العودة

١٥ مايو ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 5117

المسافة بين القول والعمل
salman.jpg

شـــــارك المادة

كثيرون يَعتبرون مجرَّد انتحالِهم اسمَ الإسلام كافيًا لتحـقيق أمانِيِّهِم، ولا شيء وراء ذلك.

إنك تعجب حقًّا، هذا الدين الذي حَمَلت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل، ورَبَطَت كل أسباب التوفيق والسعادة به، ونزعت عن تارِكِيه كلَّ صفات الخيرية.

 

 

ثُمَّ يطول الأمل، وتَقْسُو القلوب، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يُذكِّره، ويؤكِّد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعنِي شيئًا، ولا يغنِي شيئًا.

هل مجرد ادعاء الإنسان أنَّه عاقل- مثلًا- أو غني، أو قوي، أو صحيح البِنْيَة، أو عالم أو سعيد، أو .. أو .. يجعله كذلك؟ أو يُغيِّر من واقعه شيئًا؟ إنَّ مجرد الأمانيّ العابرة، والأحلام الطائرة لا تنفع ولا تدفع، إذا لم تكن زادًا ووَقُودًا لفعل الأسباب الشرعية والطَّبْعِيّة، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام.

فدعوى (الإسلام)، أو (السنة)، أو(الحديث)، أو (السَّلفية)، أو (الاتِّباع)- مِعيارُها صدق الامتثال والعمل، والالتزام الحقيقي ظاهرًا وباطنًا.

وهنا لابدّ من التفطُّن لثلاثة أمور:

أوَّلُها: إنَّ هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم، ورفع الشعار، ثم ينامون قَرِيرِي العيون.

ثانيها: إنَّ هناك مَن يطبِّق فهمًا منقوصًا سبق إلى ذِهْنِه، وظنَّه هو الحقّ، فهناك مَن يرَى الإسلام عبادةً فحسب، أو زهدًا فحسب، أو قتالًا فحسب، أو ما شاء له تصوَّره، ويتمسك بهذا، مُعْرِضًا عمَّا سواه، وقد يرَى الإسلام مظهرًا وشكلًا مجردًا دون مضمون حقيقي.

ثالثُها: إنَّ هناك مَن يفهم الأمر على حقيقته، لكنَّه لا يعمل به، وهاهنا لا مشكلة في الفهم والإدراك، لكن المشكلة في التنفيذ.

إنَّ هناك أسماء صحيحةً، وعناوين مقبولة، لكنَّ مجرَّد التَّسَمِّي بها لا يُفِيد حتى يُضافَ إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى، وإلا كان تَزْكيةً للنفس بغير حقّ. وكثيرًا ما يستمسك الناس بالاسم، بل ويتعصبون له، ويغضبون مِمَّن ينفيه عنهم، لكنهم يُمْعِنُون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة.

وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمةً في هذا المقام: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 123،124]، النصّ واضح وصريح.

الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي- ولو كانت شريفةً وصحيحة في ذاتها- حتى يَقْترن بها العمل؛ فالميزان مرتبط بـ { مَنْ يَعْمَلْ}، أو { وَمَنْ يَعْمَلْ}، ولهذا كان بعض السلف يقولون: إنّ هذه أخوفَ آيةٍ في كتاب الله تعالى.

يقول الحافظ ابن كثير: ((والمعنى في هذه الآية أنَّ الدين ليس بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدَّقته الأعمال, وليس كلُّ من ادَّعى شيئًا، حصل له بمجرَّد دعواه، ولا كل من قال: إنه على الحـقِّ سُمِـَع قـولُه بمـجرَّد ذلك، حتى يكون له من الله برهان))(1) ، وكلمة الحسن البصري- رحمه الله- مشهورة، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق.

ثم ؛ هذه الأسماء التي يَدَّعِيها المُدَّعون ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزيْن:

الصنف الأول: أسماء وانتسابات مشروعة مطلقًا، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع، والاعتراف به، وإعلانه، وذلك مثل قول المسلم: أنا المسلم، والحمد لله. فهذا انتساب محمود بكل حال، وانتماء شريف عظيم، وواجِبٌ على قائله تأييد قوله بفعله.

الصنف الثاني: أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقًا، ولا ادعاء تحصيلها، مما يُوهِم كمال الإنسان، واستيلاءه على الذروة العليا، ومنها لفظ الإيمان، فلا يَحْسُن بالمرء أن يقول: أنا مؤمن ، على سبيل التزكية، والثناء على النفس، ولذلك قال الإمام أحمد- رحمه الله-: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فقد جئنا بالقول، ونخشَى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبنِي أن نستثنِي في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة (الإيمان 90) وأبو عبيد (الإيمان 17) أنَّه قال: "مَن شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة".

وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ومؤمن أرجو؛ لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال، على ما افتُرِضَ عليه أم لا. وانظر بقية الروايات عن أحمد في «المسائل والرسائل» بتنسيق وتحقيق: عبد الإله الأحمدي ( 1 / 117 - 125).

وذلك أنَّ الإيمان المطلق يتضمَّن فعل ما أمر الله به كله، وترك ما نهى الله عنه كله، فإذا قال: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع الأوامر، وترك جميع النواهي، فهو من أولياء الله، وهو من أهل الجنة، كما قال ابن مسعود (وانظر: فتاوى ابن تيمية 7 / 446).

إذًا فترجيح الاستثناء، كأن يقول: أنا مؤمن- إن شاء الله-، أو أرجو أنني مؤمن، هو من باب نَفْي التزكية عن النفس، وعدم دعوى الإيمان المطلق، ولهذا لا يحسن بأحدٍ أن يقول: أنا مؤمن حقًّا، أو قطعًا، أو أَلبتَّة، أو عند الله.. لِمَا يشـعر ذلك به من دعوى الكـمال، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال, هذا مع أنّ لفظ الإيمان لفظ شرعي، وقد جاء في القرآن الكريم: { قُولُوا آَمَنَّا} [ البقرة: 136]، {رَبَّنَا آَمَنَّا} [آل عمران: 53]، {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} [يس: 25] الخ ، فما بالُكَ بالألفاظ الاصطلاحية التي لم تَرِدُ في نصِّ كتابٍ أو سنةٍ، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة، كلفظة (أنا سلفي)- على سبيل التمثيل- أليست أوْلَى بالتقييد والضبط؟ أليست السَّلفية قولًا وفعلًا؟ أليست منهجًا وسلوكًا؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السَّلف من المعانِي، والأعمال، والأقوال، والأحوال؟ أم أضمن إذ فهمتها أنَّنِي تَمثّلتُها في واقع حياتي، حتى حُقَّ لي أن انتحِل النسبة الشريفة هذه؟

أما حين تكون المسألةُ بيانَ حالٍ، أو تقريرَ واقع في جانب مُعيَّن، فالأمر يختلف، كأن يقول: أنا على طريقة السلف في الإيمان، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات، أو على طريقتهم في الاعتقاد.. فهذا لا بأس به عندي، والله أعلم.

والخلاصة أنَّ المؤمنين يجب أن يُراعوا أهمية العمل والتحقيق، وليس مجرَّد الانتساب والدعوى.

فمتى يَعِي المسلمون هذا؟ ومتى يَعِي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخُرَ بالنسبة لا يُجْدي شيئًا، حتى يقترن بالعمل؟ وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود، يصدق أو لا يصدق، بل بالتحلِّي بنقاء السريرة، وصفاء السيرة، وصلاح العمل، وتدارُك العيب، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة، وكمال الصدق مع الله.

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع