مؤمن مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 7457
شـــــارك المادة
مع اتساع رقعة أرض الحرية في سورية، وانهيار الخدمات الحكومية، التي كانت أصلاً بائسة، بدأ أهل كلّ بلدة يمسكون زمام المبادرة لإغاثة وخدمة بلدتهم فيما يمكن اعتباره إدارات مدنية محدودة، لتقديم الحد الضروري من الإغاثة والخدمات العامة، وشيء من تنظيم البلدة وإدارة شؤونها.
بالتوازي مع الدور الأمني الذي يقوم به الجيش الحر في المنطقة، والمحكمة الشرعية لفض النزاعات والبت في الخلافات، والخدمات الطبية التي تقدمها الهيئات الطبية.
* * *
معلّم شاب في مدينة إعزاز في منطقة حلب، ابن لمعلم عريق في المدينة، بادر بعد تحرير إعزاز، في يوم جمعة مباركة، في الثامن من رمضان المبارك 1433 الموافق السابع والعشرين من تموز 2012، بإنشاء أول مكتب إغاثة محلي في الشمال السوري المحرر، ليعيد إلى ذاكرتنا أن المعلمين، المهمّشين في بلادنا المتعفّنة بالفساد، هم طليعة الأمة وبناة البلاد الحقيقيون ويستحقون أن يكونوا دائماً في القيادة. هذا المعلم الشاب بدأ العمل بفريق من شخصين، وانضمت له لاحقاً ثلة من ثمانية عشر شاباً من شباب إعزاز الخيّرين المتطوعين، معهم صبي في الثانية عشرة من عمره صار من أركان مكتب الإغاثة في إعزاز. يوسف الصبي ذو الثانية عشرة الذي قتلت أمه أمامه وأصيب برصاصات في صدره، هو الذي يعيل أخواته البنات اللاتي لم يبق لهن معيل غيره، يعمل هنا وهناك يصيب رزقاً ينفق منه على أخواته. لم يقتل القناص الذي كان على رأس مئذنة في إعزاز أم يوسف وحدها، قتل من الناس كثيراً قبل أن يظفروا به ويأخذ جزاءه، يقولون أنه كان يراهن أصحابه على إصابة الواحد من أهل البلد بدخينة "سيغارة" أجنبية.. يعقب أحمد بأن ثمن الواحد منهم عند هؤلاء المجرمين هو مجرد دخينة"سيغارة". صنع هؤلاء الشباب بتوفيق الله في هذه البلدة في زمن الحرية مشروع إغاثة يصلح مثالاً يحتذى في كل بلدة في سورية الحرة.
في السابع والعشرين من رمضان 1433 كانت إعزاز على موعد مع الموت، عندما ألقت عليها طائرات النظام المجرم القنبلة الفراغية، الحرارية الضغطية، أقوى أنواع القنابل وأشدها تدميراً والتي تسمى أم القنابل، وهي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تلقي بمثلها دولة على مواطنيها الثائرين الطالبين حريتهم. ألقى بها على مدينة إعزاز النظام الذي لم يطلق رصاصة على اليهود المحتلين أرضه قرابة نصف قرن.. في لحظات.. كانت قطعة من البلد بأرضها وسمائها وأبنيتها وأشجارها وسكانها وكل ما فيها قد اختفت..ثمانية وعشرون بيتاً من بيوت المدينة صارت في برهة من الزمن مدفونة في باطن الأرض، فيهم واحد وثلاثون شخصاً من عائلة واحدة بالإضافة إلى عشرة آخرين.. واحدة وأربعون جثة دفنت دون أكفان تحت أنقاض البيوت المنهارة التي سُوّيت بالأرض، وأكثر من مئة جريح حملوا، وكثير من المفقودين ما زالوا مفقودين.. في بطن الأرض.. كل زائر اليوم لمدينة إعزاز يحمله أهلها إلى ساحة كبيرة فارغة في وسط المدينة، كانت ذات يوم مزدحمة بالبنيان والناس وتعج بالحياة.. صارت اليوم خالية تماماً يخيم عليها شبح الموت والدمار، وتحيط بها عن بعد أبنية باقية وقد قُطعت منها أجزاؤها المحاذية لساحة الموت.. إعزاز صارت مثل هيروشيما معلماً باقياً لكي لا ينسى أحد ما فعلته بسورية قبيلة الأسد. ربما كان عدد ضحايا القنبلة ليسوا شيئاً في عداد قافلة الضحايا الهائلة التي سقطت وما زالت تسقط كل يوم في سورية، لكنها زرعت الرعب والهلع في قلوب الناس ودفعتهم للفرار، وهكذا أراد النظام، فنزح أكثر أهل إعزاز عنها، كما فعل من قبل أصحاب هؤلاء من اليهود على أرض فلسطين، بمذابح اقترفوها في دير ياسين وغيرها بثت الرعب في أهل فلسطين فنزح عنها من نزح. مضى وقت ليس بالقصير قبل أن يبدأ أهل إعزاز بالعودة إلى مدينتهم بعد هذه المذبحة. كثير من الناس كانوا فقراء أصلاً وازدادوا فقراً بما أصابهم، صارت الآن أكثرية السكان من الفقراء والأرامل والأيتام. خمسة أفران تعمل لتوفير الخبز لأهل المنطقة، الذين بقي منهم نحو خمسين ألف نسمة بعد أن نزح مثلهم. الأطفال يسحقون كل يوم وهم يقفون على أبواب هذه الأفران ليظفروا ببعض الأرغفة.
تابع أحمد وأصحابه مسيرة الإغاثة والبناء في إعزاز، ينتقلون بمكتب الإغاثة من مبنى إلى مبنى، ومن قبو إلى قبو كلما قُصف مقرّهم. بدؤوا بتقسيم إعزاز إلى قطاعات، وإحصاء كامل المدينة والريف المحيط بها، وبناء قاعدة بيانات على الحاسوب، وتثبيت معلومات النفوس المتبقية من أية وثائق باقية عند السكان، وإحصاء الشهداء والمفقودين، والفقراء والأرامل والأيتام حتى يقوموا بإغاثتهم قبل غيرهم، وأحصوا الأطفال الرضع لتوفير الحليب لهم، وصرفوا لهؤلاء المحتاجين بطاقات معونات ينظمون بها توزيع هذه المعونات، وجمعوا ما استطاعوا من إعانات وأغذية وفرش وأغطية، وقامت فرق من الشباب المتطوعين بتوزيعها على الناس، وما زالوا يفعلون، لكن ما بأيديهم أقل كثيراً من الاحتياجات، فيضطرون إلى تقسيم الحصص أو إعطاء بعض المحتاجين في مرة وبعضهم في مرة أخرى. على قائمتهم ما يزيد على سبعة آلاف ومائتي عائلة بمتوسط خمسة أشخاص، يغيثون منها نحو مائتي عائلة يوفرون لها الأغذية والأغطية والفرش. يأتيهم ثلاثة آلاف علبة حليب ولديهم ثمانية آلاف رضيع فلا يقدرون على سد كل الحاجات، ويعيش بقية الأطفال الرضّع على خليط الشاي واليانسون والخبز المفتت، لينتهوا إلى سوء التغذية وينضمون إلى جمع المعاقين في المدينة.
لم يقتصر عملهم على الإغاثة بل تجاوزوها إلى المباشرة في البناء، بناء الإنسان الذي دمره النظام نصف قرن من الزمان، مبتدئين مرحلة سقوط النظام قبل غيرهم في سورية الحرية. بدؤوا مشروع حلقات القرآن، في المساجد الناجية من التدمير، بخمسة معلمين وثلاثة وأربعين تلميذاً وتلميذة من أطفال المدينة. بعد أسبوعين كان لديهم تسعمائة من التلاميذ، وسرعان ما تطورت هذه الحلقات إلى مشروع تعليمي شامل، يعلّمون فيه كل الدروس الأخرى بالإضافة إلى القرآن الكريم، وجاءهم مدد من جدة بالكتب والقرطاسية. وبينما نراهم اليوم يستعيضون بهذه الحلقات المباركة عن المدارس المدمّرة، نتذكّر المسجد الذي كان يقود مسيرة العلم في العصور الذهبية لهذه الأمة، وكتاب الله العظيم الذي كانت تستظل به في حياتها كلها. وكلما ابتعدت الطائرات وانقطع القصف الذي يقذف الموت في أنحاء إعزاز، تنطلق نشاطات تبعث الحياة فيها من جديد. بعد شهر ونصف من بداية مسيرة التعليم في إعزاز، كان أهلها يشهدون زرعات أطفال حلقات القرآن، عندما قام هؤلاء التلاميذ بزرع ألفيّ غرسة في البلد. ومن بعدها معرض أرض الحرية، الذي عرض عشرات من رسومات طلاب حلقات المساجد. ومسابقات القرآن في كل مسجد على مراحل مختلفة في كل مكان من المنطقة. أسبوعان من النشاطات اللاصفّيّة من شروق الشمس إلى غروبها، في مخيمات كشفية، تتخللها تلاوة قرآن وألعاب رياضية، وتوزيع حجابات على الصغيرات بلغت ألفاً وتسعمئة حجاب. دورة مصغّرة للتأهيل النفسي والتربوي والاجتماعي. مشروع للمعاقين، أُحصي فيه ألف وثلاثمئة وخمسون معاقاً، وبُذل فيه جهد كبير، لكن الثمرة كانت قليلة لقلة الإمكانيات وتمتد هذه السواعد للمشاركة في مشروع نقل مكتبة المركز الثقافي إلى مكان آمن بعد احتراق المركز، ينقلون وينظفون ويصنفون هذه الكتب، ويبعدون الكتب المسمومة للنظام البائد، ويخططون الآن لمسح هذه المكتبة إلكترونياً في مكتبة رقمية. كان جزءاً من هذا المشروع مهرجانا لحرق كتب المجرم الهالك بالأمس حافظ والمجرم الهالك عما قريب بشار وكتب البعث البائد في اجتماع احتفالي كبير لأهل البلد.
وما زالت الطائرات تقصف والمدافع تقذف والصواريخ تنهمر، تزرع الموت.. وما زالت السواعد المؤمنة تعمل وتبني وتبعث الحياة.. والأمة ماضية في جهادها..
حسن قاطرجي
أحمد خناق الستاتي
عبد الكريم بكار
بدر الدين حسن قربي
شكرا من القلب د.مؤمن ديرانية الغالي على قلبي جدا والله كنت نعم الأب وأسأل الله العظيم أن يحفظك أنت وابناؤك ويبلغك مناك فلقد أخجلتني بكلماتك وىحتارت الحروف
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة