..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

“الحل السياسي” وإجهاض الثورة

مجاهد مأمون ديرانية

٣ فبراير ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3251

“الحل السياسي” وإجهاض الثورة
1 مجاهد مأمون.jpg

شـــــارك المادة

العاصفة التي أثارها الاقتراح الأخير للشيخ معاذ الخطيب أظهرت أن فينا عيبين كبيرين في فن الحوار، أوّلهما لاحظته في الفريق الذي رفض الاقتراح وهاجمه وهجا صاحبه، والثاني في كلا الفريقين، خصوم الشيخ ومحبّيه.
العيب الأول هو القسوة والبذاءة وسوء الظن، وهي ليست من صفات المحاور الناجح ولا هي أصلاً من صفات المسلمين.

 


يمكن للشيخ معاذ أن يخطئ، بل يجب أن يخطئ لأنه بشر من البشر، فأروني من لا يخطئ حتى أبايعه الساعةَ أميراً للمؤمنين.
ولكن الخطأ يُناقَش بالرفق والحكمة ولا يُجيز الحكمَ على النوايا والقفز إلى التخوين.
وأين يذهب هؤلاء المخوّنون بسابقة الشيخ حينما جهر بالحق في سوريا منذ عشر سنين، يوم لم يكن المتجرئون على الجهر بالحق غيرَ حفنة من أهل سوريا أجمعين؟
ألا لا ينسى المعروفَ إلا جاحدٌ ولا ينكر فضلَ الكريم إلا لئيم.
من رأى خطأ من أي عَلَم من أعلام الثورة وقادتها وأراد الاستدراك على الخطأ فليفعل، بل “يجب” أن يفعل حسبةً لله وحرصاً على الأمة والثورة، ولكنه مطالَب بالتأدّب في الحوار وبالموضوعية في النقد وبتحرّي الحق والمصلحة بعيداً عن التعصب والتخوين، فإذا فعل ذلك أحسن وأصاب وله أجر المجتهد وأجر المحتسب إن شاء الله.
العيب الثاني لاحظته في الفريقين، الغاضبين الذين هاجموا الشيخ والمحبين الذين دافعوا عنه، وهو العجز عن الفصل بين الشخص والفكرة.
والمرء إذا أصيب بهذه الآفة وقع في وهمه أن الفكرة لا بدّ أن تكون جيدة صحيحة إذا صدرت عن شخص جيد صالح، وأنها سيئة حتماً إذا كان مصدرها سيّئاً، مع أن الحكمة ضالّة المؤمن، هو أحق بها حيثما وجدها.
والدين القويم يأمرنا بالقسط والإنصاف، والعقل السليم يدعونا إلى التفكّر والحكم على الفكرة مجرّدةً عن قائلها، فما كان صواباً أخذناه من أيٍّ كان وما كان خطأ رفضناه كائناً صاحبه من يكون.
فيا أيها المحبون:
لا يحملنّكم تقدير شخص على تقديسه، ولا تصلوا بالإعجاب بأي إنسان إلى درجة الانبهار الذي يُغشي الأبصار فيُعجز المرء عن صحة الحكم على المعاني والأفكار.
ويا أيها الغاضبون: لا يحملنّكم بغض فكرة على بغض صاحبها ولا تترجموا رفضها برفضه كله جملة واحدة، فكم من شخص أخطأ في فكرة وأصاب في العدد العديد من الأفكار.
تلك مقدمة فرضها الموضوع الذي بسببه ثارت العاصفة، والذي من أجله كتبت هذه المقالة، وهو أمر خطير كبير يحتاج إلى قدر كبير من التأمل والتفكير.
لقد لاحظت وأنا أتابع طوفان التعليقات خلال الأيام الأخيرة أن أكثر المدافعين عن اقتراح الشيخ معاذ ركزوا على مسألة إحراج النظام أمام المجتمع الدولي، فإن الدعوة إلى التفاوض المشروط -كما قالوا- ستُثبت أن المعارضة جادّة في الحوار صادقة في طلبه وأن النظام مراوغ كذّاب.
ولكن مَن قال إن المجتمع الدولي يبحث عن برهان على صدق المعارضة أو على كذب النظام؟
هذا وَهْم كبير آن للأحرار أن يتخلصوا منه، فإن المجتمع الدولي المنافق يعلم منذ دهر أن نظام الاحتلال الأسدي كذّاب أفّاك، وهو مع ذلك يريد من المعارضة أن تلتقي معه في تفاوض وحوار، بل هو يدفعها إليه ويضغط عليها للتنازل والقبول به، لأنه اعتمد الحل السياسي للأزمة السورية ويسعى إلى إنهاء الثورة واحتوائها من خلاله.
إن المتابع لثورتنا العظيمة يدرك أن القوم قد أيِسُوا من القضاء عليها مرتين، مرّةً حينما كانت ثورة سلمية سلاحُها الشعارات والهتافات، ومرة حين صارت ثورة مسلحة بالبنادق والمدافع والدبابات.
القوم الذين أقصدهم ليسوا الرئيس المخلوع وعصابته، فهؤلاء أمرهم سهل، ولو أنهم تُركوا وخُلّي بيننا وبينهم لما صبروا غير عام أو نصف عام.
“القوم” هم الذين عرفتموهم فسمّيتموهم في الجمعة الأخيرة؛ إنهم “المجتمع الدولي” المجرم المنافق بكل مكوناته المعروفة من دول ومؤسسات: أميركا وسائر الغرب، وروسيا وسائر الشرق، وإيران وسائر الشيعة، والأمم المتحدة، ومن كان تابعاً لأي من هؤلاء من حكومات ومنظمات.
لما أيسوا من القضاء على الثورة لم يعد في أيديهم حلّ إلا إجهاضها بالوسيلة المُثلى التي استعملوها معنا عبر التاريخ، والتي نجحوا فيها دائماً -للأسف الشديد- وخسرنا نحن فيها على الدوام: المفاوضات والحل السياسي.
إنها لعبة لا نجيد لعبها لأنها تعتمد على أدوات لا نملكها أو لا نحسن استعمالها، الكذب والغش والمكر والغدر والخديعة، وسائر الموبقات التي يعرفها أهل السياسة ولا يترددون في استعمالها بلا وازع من خلق أو ضمير.
أستطيع أن أكتب لكم قائمة بطول ألفيّة ابن مالك بالمرات التي كدنا نغلبهم فيها على الأرض، فلما نقلوا المعركة إلى طاولة المفاوضات خسرنا كل شيء.
ولكني لا أريد أن أطيل، يكفي أن أذكّركم بثورة المسلمين الكبرى في الهند ضد الاستعمار البريطاني، والثورة الأندونيسية الكبرى ضد الاستعمار الهولندي، والثورة الجزائرية التي قادها الأمير عبد القادر ضد الفرنسيين وسيطر فيها على ثلاثة أرباع البلاد وهزم الجيوش الفرنسية هزائم قاسية كادت تنهي الاحتلال في أول أمره قبل أن تقوى شوكته، وما فلسطين عنكم ببعيد.
إن المراقب اليوم يرى أن المسرح الدولي يجري إعداده بسرعة لإخراج مسرحية جديدة اسمها “الحل السياسي” للثورة السورية.
الغراب الأخضر يدعو إلى “قرار واضح من مجلس الأمن لتحديد أجندة تسوية النزاع السوري”، وقادة الغرب والشرق يلتقون كل يوم من أجل هذا الهدف، والوعود بالدعم السخي بالمليارات مرتبطة به، والحصار على الثورة يزداد شدة وخنقاً لدفعها إليه وحملها عليه، والنظام راغب فيه وحريص عليه لأنه بات الأمل الأخير لديه… ولم يبقَ إلا أن توافق الثورة وتجلس على الطاولة.
من أجل ذلك وجب على الثورة وقادتها وعقلائها أن يدركوا الخطر العظيم فلا يجلسوا إلى طاولة الحوار، بل لا يقربوها ويفرّوا منها فرار الصحيح من المجذوم والظبي من الأسد.
إن الجلوس على طاولة الحوار مع أي طرف من أطراف النظام -سواء مَن غرق بدمائنا إلى المرفقين أو اقتصر على الكفين، سواء مَن قتل أو أعان وظاهر القَتَلة والمجرمين- إن الجلوس مع أي من هؤلاء على طاولة المفاوضات هو الخطوة الأولى للدخول في النفق، نفق الحل السياسي الذي اختاره أعداء سوريا والذي يدفعون إليه دفعاً جباراً ويحرصون على إنهاء الثورة من خلاله، وهو أمر لو حصل -لا قدّر الله- فسوف يعيدنا إلى المربع الأول، أو إلى واحد من المربعات المبكرة في أحسن الأحوال، فنرجع إلى بيوتنا (أو إلى ما بقي من بيوتنا) بالجراح ولمّا نكسب شيئاً ولا حققنا غاية، وعلى الثورة وعلى حرية سوريا السلام.
إن للثورة هدفاً أعلنته ألف مرة، بل ألف ألف مرة على ألف ألف لسان، وهو سقوط النظام والحصول على الحرية والاستقلال كاملَين غير منقوصين.
وهذا الهدف لا يحتاج إلى حوار ولا يتم به أبداً، لأن المجرمين الكبار في عصابة الاحتلال -الرئيس المخلوع وأعوانه- لو أرادوا التنازل والنجاة لحزموا حقائبهم وغادروا سوريا في أقرب طائرة، أما البقاء في سوريا فلا أمل لهم فيه إلا جِيَفاً تحت التراب، لذلك فإنهم إذا فاوضوا لا يفاوِضون إلا للاحتفاظ بالسلطة وليكسبوا المعركة بالمكر بعدما عجزوا عن كسبها بقوة السلاح.
إن المفاوضات إنما تكون بين طرفين اشتركا في منفعة ثم اختلفا على قسمتها بينهما، كالشريكين في التجارة اختلفا على الحصص أو الدولتين تنازعتا منطقة فاصلة بينهما على الحدود، فهذه خلافات يمكن حلها بقسمة ما اختُلف فيه بين المتخالفين.
ولكن كيف يتفاوض طرفان على منفعة لا يمكن أن تُقسَم بينهما أبداً؟
على أي شيء يتحاوران إذا كان مآل أحدها البقاء ومآل الآخر الفناء؟
كيف يتفاوض الحرامي مع مالك الدار إذا كان لا يملكها ولا يسكنها إلا أحدهما؟
كيف تتفاوض أم مع خاطفة خطفت ولدها وادّعته لها؟ أيُشطر الولد شطرين فتذهب كل منهما بشطره؟
لو أن سليمان عليه السلام كان حياً بين أظهرنا لحل الخلاف وأمر بنزع الولد من الخاطفة التي خطفته وردّه إلى الوالدة التي ولدته، ولكن قضاة هذا الزمان “الدوليين” لا يبالون أن يشطروه أو ينزعوه من الوالدة فيَهَبوه للخاطفة هبة الأبد! لا يا أيها الناس، لا تسمحوا لهم بالتحكم بكم ولا بالتحكيم بينكم وبين عدوكم، ولا تفاوضوا الحرامي على الدار ولا الخاطفة على الطفل المخطوف. إنه طريق أوله ورد ونور وآخره شوك ونار.
ثم إن المفاوضات لا تكون أبداً إلا بأخذ وعطاء، وقد عرفنا الأخذ (إطلاق المعتقلين وأجوزة السفر للمهجّرين) ولكن ما بال العطاء لم يعرف به أحد ولم يسأل عنه أحد؟ ولو أن النظام استجاب لأي تنازل صغير من طرف الثورة فأطلق اليوم عشرة آلاف ثم طلب تنازلاً غيره ليطلق عشرة آلاف أُخَر، فإلى أين سنصل في آخر الطريق؟
الخلاصة: إن التفاوض والحوار أوله مغريات مفرحات وآخره كارثات مبكيات.

إننا قوم نتقن القتال ولا نتقن الحوار، وما أكثر ما كسبنا على الأرض وما أكثر ما خسرنا على طاولات المفاوضات، فلماذا نظن أننا سننجح اليوم في سوريا في أمر لم ننجح فيه في خمسة قرون خلت في أي بلد من بلاد الإسلام؟

 

 

الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع