محمد العبدة
تصدير المادة
المشاهدات : 8178
شـــــارك المادة
هذا مقال تاريخي كاشف لجذور الواقع يتحدث عن فترة عصيبة في تاريخ سورية الحديث، فترة وقع فيها الانقلاب العسكري الذي قاده ضباط من الناصريين والبعثيين في 8 آذار عام 1963م، وخطورة هذا الانقلاب –ولذلك نتحدث عنه اليوم– أنه هو الذي أتى بالبعثيين إلى الحكم ومن ثم هو الذي أتى بحافظ الأسد والحكم الطائفي الذي أفسد الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية عدا عن محاربته للدين ولعلماء الإسلام، وليس هذا محل تفصيل لوضع سورية في عهد هذا الحكم، ولكن نريد أن نعلم ما الذي جرى حتى وقع انقلاب 8 آذار ووقعت هذه المصيبة على الشعب السوري، وأنا أعلم أن بعض الناس سيقولون أنت ترجعنا إلى الماضي بينما يجب أن نعيش الحاضر، وهذا غلط بين لأنه كما يقال: إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي، وإذا كان ذكر التاريخ لا يستفاد منه فلماذا ذكر القرآن الكريم قصص الأنبياء السابقين وما جرى لهم مع أقوامهم، ولنبدأ القصة من أولها.
في عام 1958م تمت الوحدة الكاملة بين سورية ومصر، وتنازل الرئيس السوري شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر وأصبح الأخير هو رئيس هذه الوحدة، لم تدرس خطوات هذه الوحدة بشكل متأن، وحصلت أخطاء كثيرة لامجال لذكرها في هذه العجالة، وهذا أحد أسباب وقوع حادثة الانفصال عن مصر ورجعت سورية إلى عهدها السابق، وقعت حادثة الانفصال بالإنقلاب العسكري الذي قاده العقيد عبد الكريم النحلاوي في 28 أيلول 1961م.
بعد وحدة دامت ثلاث سنوات (1958-1961) وقد سميت هذه الفترة ما بين 1961-1963م أي ما قبل انقلاب (8) آذار 1963 بفترة الانفصال، وقد تميزت فيها الحياة السياسية بالحرية وعودة النشاط الإسلامي إلى عهده الأول ففي عهد الوحدة منع العمل الحزبي وكأن الحركة الإسلامية اعتبرت نفسها حزباً فأوقفت نشاطها، الأجواء في هذه الفترة (الانفصال) كانت مهيأة للإصلاح بوجود الحرية وأظن أنها كانت فرصة لم تستثمر كما يجب.
هذا من ناحية الدعوة والعمل الإسلامي، أما من الناحية السياسية فإنه مع الأسف رجعت سورية إلى الحالة التقليدية، الشخصيات السياسية نفسها، الأحزاب نفسها، المناكفة السياسية والعصبية الحزبية، الحزب الوطني وحزب الشعب كأحزاب تقليدية مع وجود حزب البعث المؤدلج وهو قوة موجودة في الساحة السياسية ولهم وجود عسكري واضح خاصة جناح أكرم الحوراني، كما رجعت العصبية المدينية بين حلب ودمشق، وهذا ما أدى إلى ضعف الحكومات (البرجوازية) التي يقودها أمثال ناظم القدسي وخالد العظم، والأنانيات التي تعودت عليها الأحزاب، وخضوع بعض الشخصيات السياسية لتوجهات كبار التجار الرأسماليين، كل هذا جعل من سورية بلداً ضعيفاً أمام المؤامرات الخارجية والداخلية، وسورية بلد لا يراد له الاستقرار لما يتمتع به من حيوية ونشاط، وإذا استمر طويلاً يعيش في أجواء الحرية فربما يؤدي هذا لمجيء أناس يجعلون من سورية بلداً مستقلاً عن تدخلات الغرب أوالشرق، ويجعلونه بلداً قوياً من الناحية الاقتصادية.
لم تسرح حكومات هذه الفترة (الانفصال) الضباط المناوئين لها أو المناوئين لتوجهها أو المنغمسين في الحزبية والطائفية، ولم تتجرأ على خطوة كهذه حتى تأمن شر الانقلابات العسكرية، وبقي الضباط البعثيون والناصريون والطائفيون في أماكنهم.
حاول الناصريون العودة إلى الوحدة بالقوة فتمرد بعض الضباط في حلب ولكن حركتهم فشلت، واستغل البعثيون والناصريون هذا الحدث وبدأ التهويل أن سورية على وشك التقسيم بين حلب دمشق أو الشمال والجنوب مما أدى إلى عقد مؤتمر حمص لتسوية الأمور وكان من قراراته أن يخرج من سورية أصحاب انقلاب أيلول الذي أنهى عهد الوحدة، وخرج عبد الكريم النحلاوي من سورية، وكان هذا خطأ جسيماً، وكان هذا بداية التراجع، كيف يقبل الذين قاموا بانقلاب على عهد عبد الناصر أن يخرجوا من بلدهم ويتركوا الأمور وهي في غاية الغموض حول المستقبل.
كان العقيد مطيع السمان يحث الرئيس القدسي على عزل عبد الكريم زهر الدين عن قيادة الجيش ووزارة الدفاع فلم يتجرأ على ذلك وعندما اقتنع وأراد أن يعزله كان قد فات الأوان ويقول خالد العظم: ولم يبق هذا القرار إلا في مخيلته لبضع ساعات، وبسبب هذا الضعف والتردد بدأ العد التنازلي وبدأت السماء تتلبد بسحب سوداء، كان ثمة إحساس بأن شيئاً يدبر ويخطط له وأنه سيقع، والحكومة كأنها تنتظر حتفها ولم تقم بأي حركة، وكنا نسمع ونحن طلاب نهتم بالأمور السياسية أن هناك حركة من بعض الضباط الوطنيين الذين يتخوفون من وقوع البلد بأيدي البعثيين، وأن هذه الحركة بقيادة ضابط اسمه صدقي العطار، وأن هذه المجموعة أحسوا بما يدبر في الخفاء فقرروا قطع الطريق على البعثيين والناصريين، ولذلك اتصلوا بالأستاذ عصام العطار ليسألوه المشورة والدعم، ولكن الأستاذ عصام رفض هذه الفكرة لأنه لايؤيد الانقلابات العسكرية والإخوان غير مستعدين لهذه الأمور الآن، أما رئيس الجمهورية ناظم القدسي فقد أحس بما يدور بين صدقي العطار وزملائه فطلب منهم ألا يقوموا بأي عمل
هكذا كنا نسمع يومها، وبقيت هذه القضية تؤرقني وأحب أن أسمع الرواية الصحيحة، إلى أن جاءت الفرصة المواتية عندما كنت في زيارة لأمريكا والتقيت في منزل الأستاذ نزار البرازي في مدينة (آن آربر) بالعقيد عبد الكريم النحلاوي قائد الانقلاب الذي أنهى عهد الوحدة (كان انقلاباً دمشقياً فكل الضباط الذين كانوا معه من دمشق) وبعد السلام والدردشة عن سورية سألت النحلاوي عن حركة صدقي العطار فقال: هذا ضابط أساء كثيراً إلى سورية فقد كنا متفقين على إزاحة عبد الكريم زهر الدين (1) وكان العطار في اللواء 72 في قطنا، وبعد الاتفاق على اليوم المحدد ذهب في اليوم السابق على الميعاد وأبلغ زهر الدين بما يدبر وأنه هو ليس داخلاً في الحركة، وتابع النحلاوي: وفي اجتماع في القصر الجمهوري برئاسة القدسي قال لي زهر الدين: أرجو أن تهدأ الشباب في قطنا، قلت له: أنا الآن لست عسكرياً وأنت لا تستحق هذا المنصب، وهنا اعتذر النحلاوي عن خطئه وخطأ زملائه حين أتوا بزهر الدين إلى رئاسة الأركان، وأنه يشعر بالندم على الثقة بالضباط الطائفيين، فقلت له: كيف تكون القوة بأيديكم ثم تتركونها؟ قال: لم يكن في النية الانفصال عن الوحدة، بل كان الهدف إصلاح الأوضاع ولكن عبد الناصر رفض أي محاولة للإصلاح فتم الانفصال، وكذلك كنا نريد إعادة الديمقراطية إلى سورية ويبتعد العسكر عن السياسة، وبدأنا البحث عن رئيس للجمهورية، فطلبنا من رشدي الكيخيا (2) فلم يقبل، فعرضنا الأمر على عبد القادر الأسود (3) فاعتذر، ثم استقر الرأي على ناظم القدسي وطلبنا منه أن يكلف سعيد الغزي بتشكيل الوزارة، استدعاه القدسي وسمىَ له أسماء الوزراء الذين يريدهم فلم يقبل الغزي واعتذر، فكُلف معروف الدواليبي، وشكلت الوزارة من شخصيات لا نريدها، كنا نريد وزارة من وجوه جديدة ومن الشباب خاصة. قلت له: كأنك تقول أنكم خدعتم من قبل القدسي والدواليبي، قال: نعم السياسيون خربوا كل شيء.
هذه رواية النحلاوي عن حركة صدقي العطار ولماذا قاموا بانقلاب 28 أيلول 1961 (4) وقد سألت الأستاذ عصام العطار عن هذا الموضوع فقال: أنا طلبت من صدقي أن يجمع حوله شباباً من الكلية العسكرية يكونون معه ولم نطلب منه أن يقوم بانقلاب عسكري، وأضاف الأستاذ عصام: كان عند صدقي تحركات فطلب مني ناظم القدسي أن أتدخل ولم أتدخل ولم أطلب من صدقي شيئاً.
وبتاريخ 5-9-2004 التقيت في عمان الأستاذ عدنان سعد الدين (رحمه الله) وانجر الحديث عن سورية والحركات الإسلامية فسألته عن صدقي العطار، قال: "صدقي كان يريد غطاء سياسياً لعمل يقوم به ولكن عندما لم يجد الغطاء استسلم وفشل "هذا رأي الأستاذ عدنان والله أعلم.
وبعد أن قرأت مذكرات العقيد مطيع السمان وقد كان قائد قوى الأمن الداخلي في هذه الفترة تأكد لي أن حركة ضباط قطنا صحيحة ولم يذكر اسم صدقي العطار ولكن قال: "طلب مني الرئيس القدسي أن أذهب إلى معسكرات قطنا وأخبره بما يجري هناك، وقد شاهدت رتلاً من الدبابات والآليات جاهز للحركة وقال لي ضباط هذا المعسكر: حالة الجيش لا تطاق في ظل القيادة الحالية، وقد أبعد الضباط الشرفاء ونطالب بعودتهم، ويتابع العقيد السمان: واتفق الرأي على معاقبة ضباط قطنا هؤلاء وكلهم من دمشق ومن صغار الرتب، وكان هذا القرار من أكبر الأخطاء، وخلت الساحة أمام غبرهم الذين فعلوا فعلتهم"
طبعاً يقصد العقيد السمان انقلاب (8) آذار وكلامه يؤكد لي مرة ثانية أن ما كنا نسمعه من أن هؤلاء الضباط كانوا على خوف وترقب من أن يسبقهم البعثيون والناصريون ويقومون بانقلاب ويستلمون البلد خاصة والحكومة ضعيفة ورئيسها خالد العظم الذي قال لمطيع السمان: إذا وقع انقلاب أخبرني فوراً لأذهب إلى السفارة التشيكية (السفارة قريبة من منزل العظم)!!
في هذه الأجواء المتراخية الخائفة كان من السهل أن يلتقي أمثال زياد الحريري وراشد قطيني ولؤي الأتاسي وغيرهم من الناصريين والبعثيين ويقوموا بانقلاب (8) آذار على الحكومة الضعيفة التي تمارس الديمقراطية الرخوة، وقد سرق البعثيون هذا الانقلاب وأبعدوا الناصريين الذين يتمتعون بسذاجة لا يحسدون عليها، وكلف صلاح البيطار بتشكيل الوزارة لأنه ممن عارض الانفصال عن مصر، واستدعى البيطار الضابط البعثي أمين الحافظ الذي كان ملحقا عسكرياً بالسفارة السورية في الأرجنتين ليكون وزيراً للداخلية ثم وبسرعة فائقة صار رئيساً للجمورية واستخدمه الضباط العلويون كواجهة، وسرق هؤلاء الضباط الانقلاب من البعثيين عام 1966، وأبعد قادة البعث عن سورية فذهبوا إلى العراق ووقعت سورية وشعبها العربي المسلم تحت الحكم الطائفي الحاقد على العروبة والإسلام.
أحداث خطيرة وقعت بعد هذا الانقلاب عاشت سورية عشرات السنين والحكم الطائفي يمعن في تخريب البلد ثقافياً وأخلاقياً واقتصادياً حارب الدين واضطهد العلماء والدعاة وقضى على خيرة شباب سورية في أحداث 1979-1982 (وما يجري الآن بعد ثورة2011 له حديث آخر)
ماذا نستفيد نحن الآن وفي ظروفنا الحالية حتى لا يكون حديثنا من باب الترف الفكري أو من باب اجترار الماضي والتأسف. إن من أكبر أسباب هذه الكارثة الي حلت بالشعب السوري هو هذه الغفلة عن حكم العسكر فكيف إذا كان هذا العسكر من طائفة معينة تعتقد أن لها ثأر مع أكثرية الشعب فهي تمعن في إذلاله وإضعافه وتصبح سورية كلها بقرة حلوب لهؤلاء الضباط حول حافظ الأسد.
ومن الأسباب هذا التخلي عن الهوية وهي الإسلام إرضاء لبعض الطوائف أو بحجة الوطنية الجامعة لكل المذاهب والعقائد، وحتى هذه الوطنية فشلت أمام الحقد الطائفي، كان الشعار الذي رفع بعد سقوط الدولة العثمانية ودخول بلاد الشام تحت مظلة اتفاقية سايكس–بيكو هو: الدين لله والوطن للجميع، وهذا يعني إبعاد الدين عن الواقع، وكيف يكون الوطن للجميع الذين يهدمونه ويجعلونه في مؤخرة الأمم من جميع النواحي.
ومن الأسباب هذه الليبرالية والديمقراطية الرخوة التي لاتستطيع أن تتخذ قراراً، ولا عندها رؤية حقيقية لواقع سورية وموقعها، هذه المناكفات السياسية التي لا تنتهي بين الأحزاب أنانية دون النظر إلى المصلحة العامة، وأظن أن هذه الفترة من تاريخ سورية وإن كانت قصيرة ولكن لم تستثمر كما يجب دعوياً وسياسياً وفي مناخ الحرية الذي كان، كوارث حلت بالشعب السوري، ألا يستحق ذلك أن نعلم من الذي كان سبباً مباشراً أو غير مباشر لهذه الكوارث؟ هل نستفيد نحن الآن مما وقع سابقاً؟
هناك فرص تأتي وإذا لم تهتبل قد تذهب ولا تعود، وحصل هذا في الثورة، هل نخجل أن نظهر مبادئنا بسبب من هو غير مقتنع بهذه المبادئ وهو موجود في الثورة.
لماذا لا يقال له ولأمثاله العدل سيشمل الجميع وفي كل الحالات، هل ستخسر الأكثرية إرضاء لأناس من الأقلية، أمور كثيرة نستفيد منها إذا قمنا بمراجعات لتاريخنا الحديث وحتى لا تتكرر المأساة
لقد تعبت سورية من الأحزاب التقليدية ومن هذه الأحزاب التي تخالف عقيدة أكثرية الشعب مثل حزب البعث أو القومي السوري أو من يسمون أنفسهم (ناصريون) كانت تجربة مرة أن يتحكم الأقلية بالأكثرية، وأن يظهر على الساحة السياسية من هو بعيد جداً عن هوية الأمة وثقافتها، ولعل هذه الثورة المباركة اليوم التي بدأت قبل خمس سنوات تمحص الصفوف وتعيد الحق إلى نصابه وتعيد الحق إلى أهله.
------------------------------------ 1- وزير الدفاع في عهد الانفصال وهو من الطائفة الدرزية 2- رئيس حزب الشعب ومن رجالاته ناظم القدسي ومعروف الدواليبي 3- رئيس المحكمة العليا في سورية وهو من مدينة حلب 4- في مقابلة للنحلاوي مع قناة الجزيرة قال: إن ضباط اللواء (70) اجتمعوا به ليقودهم لانقلاب آخر يصححون به الأوضاع فرفض وقال إن سورية لا تحتمل هذا
المسلم
أمين الأديب
حسان الجاجة
أحمد أرسلان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير