مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3271
شـــــارك المادة
لا أعلم كم يبلغ الذين خاب أملهم من الرد التركي المتواضع على الحادثة الأخيرة. ربما كانوا ملايين، وهم يرون أن تركيا رسبت في الامتحان. لقد كانوا يَرجون أن يردّ الأتراك بإعلان الحرب، ولو فعلوا لفرح كثيرون، وقليلون سيملؤون الدنيا صراخاً ويحذّرون من الاستعمار التركي الجديد. نقول للآخرين: بيننا وبينكم كتاب الله الذي يقول: {إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة}؛ فنحن وسائر المسلمين أمة لا يميز بعضَنا عن بعض لسان ولا مكان، ولقد بَلَونا الترك فرأيناهم أرحم ألفَ مرة من قوم ينطقون باللسان العربي ويسمّون أنفسهم سوريين، فلا تخوّفونا من عودة حكم "بني عثمان" ولكن خوّفونا من بقاء حكم "بني أسد".
ولئن تكن سوريا في أيامها الآتية تحت مظلة عريضة تركية مسلمة -تحجب عنها لظى الشمس وتقيها بَلّ المطر- خيرٌ لها من أن تكون تحت مظلة إيرانية أو روسية أو أميركية أو أوربية. أما الفرحون بالحرب فقد لا يفرحون بها لو أدركوا جزءاً خفيّاً من الحكاية. إن تركيا "تُدفَع" إلى الحرب دفعاً حثيثاً منذ شهور، وقد مرّت مناسبات عدة كان ينبغي أن تنفجر فيها الحرب فعلاً: تجاوزات على الحدود، واختطاف صحفيين أتراك، وضرب شاحنات تركية، وقصف مخيمات اللاجئين، وعمليات حزب العمال الكردستاني، وإسقاط الطيارة التركية في البحر، ثم هذا العدوان الأخير. كل واحدة من تلك الحوادث كانت شرارة كافية لإشعال الفتيل، ولكن الأتراك أصرّوا على عدم الرد. لماذا؟ هل لأنهم ضعفاء أو جبناء؟ لا يصحّ هذا الاحتمال، فالجيش التركي من أقوى الجيوش في العالم، وأي انتصار يحققه سيرفع شعبية أردوغان وحزبه إلى مستويات خيالية. إذا لم يكونوا ضعفاء ولا جبناء، فهل يمكن أن يكونوا حكماء؟ لِمَ لا؟ ربما كان هذا هو الجواب الصحيح. يمكننا النظر إلى الأحداث الجارية في سوريا اليوم عبر واحد من ثلاثة مناظير: منظار قصير المدى، يراقب الحوادث مراقبة يومية فيرى معاناة أهل سوريا وما يصيبهم من مصائب. ومنظار متوسط المدى يراقبها بالشهور فيتخيّل مصير سوريا ونتيجة الثورة، ومنظار طويل المدى يراقبها بالسنوات فيستشرف مستقبل الأمة كلها. لو حصرنا أبصارنا في الحوادث اليومية فلا مناص من أن يصيبنا الأسى والإحباط مما نشاهده من قتل وعذاب ودمار. لو مددنا البصر فشاهدنا مكاسب الثورة وإنجازاتها التي تنجزها شهراً بعد شهر فسوف يرتدّ إلينا الأمل والتفاؤل، وسرعان ما سندرك أن الثورة تقترب من غايتها اقتراباً ثابتاً مطّرداً وأنها لا بدّ واصلةٌ إلى نصرها الكامل إن شاء الله. ولو أننا فتحنا أعيننا جيداً على المشهد الكبير وأحسنّا الرؤية والتفسير والتعليل فسوف نستبشر بنهار جديد يوشك أن يطلع على الأمة بعدما سَرْبَلها الليل الطويل. ربما شغلتنا ثورتنا عن ملاحظة ما يجري حولنا في المنطقة. ولكنّا -على أية حال- لن نرى كل شيء ولو بالغنا في الانتباه، فإن ما يراه الناس هو الأقل الذي يعلو السطح، والأكثر يبقى تحته فلا يُرى، ولكنْ تُرى نتائجه وآثاره بعد حين. إنني أحس أننا نعيش أياماً لها ما بعدها. أرى علامات تقول إن حلفاً سنّياً كبيراً يولد تحت أعيننا في هذه الساعات الحاسمة من عمر الزمن. حلفاً يضم عدة دول (لعل الوقت ما يزال مبكراً لكشفها وتسميتها بأسمائها)، وقد تكون تركيا هي عموده الفقري بقوتها البشرية والاقتصادية والعسكرية العظيمة. لو تم الأمر على وجهه الذي يُرجى له فسوف يضم هذا الحلف مئتَي مليون إنسان ويملك موارد اقتصادية تجعله القوةَ الاقتصادية الثانية عشرة في العالم. أرجو أنّ الأمة مقبلة على خير كبير، في العراق وفي بلاد الشام بشكل خاص وفي المنطقة كلها على العموم. هل يمكن قطع الطريق على ذلك المشروع العظيم؟ نعم. كيف؟ بالحرب. إن الحروب المعاصرة تدمر الدول المتحاربة وتستهلك قُواها ومواردها، وهي تسلية القوى العظمى التي تسيطر على العالم والوسيلةُ التي تتوسل بها إلى إضعاف الأمم الصغيرة واستنزافها. أميركا بارعة في هذه اللعبة، ويبدو أنها فُتنت بها بعدما شاهدت نتيجتها السحرية في الحربين العالميتين. غداةَ الحرب الأولى كانت دول أوربا تملك أكثر الدنيا، كل دولة منها تستعبد من البشر عشرة أضعاف سكانها أو عشرين، وتحتل من الأرض عشرين ضعف مساحتها أو ثلاثين أو خمسين، فلما اقتتلت دمّر بعضُها بعضاً وذهبت قوتها وفقدت كل ما تملك، ثم خرجت من تحت الأرض قوةٌ جديدة سيطرت على الأرض: الولايات المتحدة الأميركية. في آخر السبعينيات كانت الجارتان اللدودتان، إيران والعراق، قوتين إقليميتين كبيرتين. بعد ثماني سنوات من الحرب عادت جيوش البلدين إلى الخطوط التي كانت عليها يوم بدأت الحرب. لقد أكلت الحرب قوة البلدين ومواردهما وأهلكت مليون نَفْس دون أية مكاسب حقيقية على الأرض. هل يفكر أحدٌ في تفجير حرب إقليمية جديدة في المنطقة نفسها، تكون تركيا طرفاً فيها هذه المرة؟ يبدو أن هذه الفرضية قريبة جداً من الصواب. في الثاني من آب الماضي نشر صالح القلاب مقالة عنوانها "الحرب الإقليمية قد تشتعل في أي لحظة". تتبّع فيها مؤشرات الاحتقان والتصعيد التي "تدل على أن الحرب الإقليمية أصبحت بحكم المؤكدة، ما لم تقع معجزة لتنفيس ذلك الاحتقان" كما قال. الأطراف المعنية بذلك التصعيد كانت إيران وتركيا والنظام السوري وحكومة المالكي في العراق وحكومة كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني. من بين تلك القوى كلها يبدو أن الأتراك هم الذين "سحبوا الفتيل" وأخّروا اشتعال الحرب، وما زالوا يؤخرون. ماذا لو تفجرت في المنطقة حرب إقليمية كانت تركيا أحدَ طرفيها وإيران وحلفاؤها الطرف الآخر؟ لا أحد يستطيع الجزم بالنتائج، ولكنّ مقارنة القُوى ترجّح ترجيحاً كبيراً أن تنتصر تركيا في الحرب، على أنه سيكون نصراً مكلفاً جداً. سوف تضعف تركيا اقتصادياً وعسكرياً، وسوف تخسر الأمة قوة كبيرة وجزءاً مهماً من التحالف السنّي المأمول، وسوف تفقد سوريا الدعم التركي الحالي (وهو دعم مستمر وكبير) لأن الحرب ستأكل موارد تركيا وطاقتها فتشغلها عن رعاية الثورة ودعمها. لقد بلغ الاستهتار والإسفاف بإيران وحلفها الشرير أنهم ما عادوا يبالون بالكشف عن نياتهم وأعمالهم الدنيئة، ولعل السبب هو أنهم وصلوا إلى المرحلة التي يرمي فيها الخصم بآخر أوراقه حينما يعرف أنه على شفا الخسارة المحققة، فلن تسوء الأمور أكثر مما هي سيئة. الطرف الآخر ما يزال متماسكاً ويرى أن أوراقه كلها ما تزال في يده، وهو لا يرى ما يدعوه إلى كشفها وحرق الخيارات والبدائل، لذلك فإنه لا يعلن عن نفسه كما يعلن الطرف الخاسر، ولكنه ما يزال يلعب، بل يمكننا القول إنه بدأ باللعب منذ وقت قريب وإنه ما يزال في أوج قوّته. لو كان هذا التصور (السيناريو) صحيحاً فإن أطراف التحالف لن تجازف بكشف أوراقها، ولن يقبل أي منها أن يُستدرَج إلى مواجهة قد تزيد خسائرُها على أرباحها. باختصار: سيحاذر الجميع وسوف يتجنبون، ولا سيما تركيا، الوقوعَ في فخ الاستنزاف الذي يبدو أن الطرف الخاسر قد وقع فيه بالفعل، بل يبدو أنه بات غارقاً فيه إلى العنق. قبل عدة أسابيع سمعت من أخ مطّلع أثق به (وهو عضو من أعضاء المجلس الوطني) سمعت معلومات تؤكد أن أميركا اختارت للثورة السورية الاستمرار إلى أجل قد يطول، وهذا يفسر القرار الأميركي الذي يمنع وصول السلاح النوعي إلى أيدي الثوار. السبب في هذا القرار هو رغبة الإدارة الأميركية في استنزاف جميع الأطراف: النظام السوري حتى يضعف ويتهاوى، والثورة حتى يسهل تطويعها وتركيعها بما يوافق المصلحة الأميركية فتُضطر إلى قبول "الحل الأميركي"، وإيران التي وجد الأميركان أن استنزافها في سوريا أسهل من ضربها ضربة مكلفة. ألا يؤكد الانهيار الأخير في العملة الإيرانية (وهو مؤشر على تهاوي الاقتصاد الإيراني) هذه النظرية؟ بلى، إلى حد بعيد. إن إيران تتآكل. الثورة السورية لم تأكل النظام السوري وحدَه، إنها تلتهم معه حزب الله في لبنان وحكومة المالكي في العراق، أولئك الثلاثة سوف يحترقون إلى درجة الفناء الكامل بإذن الله، وتلتهم إيران نفسها، وأرجو أنها لن تخرج بأقل من حروق من الدرجة الأولى ستعاني من آثارها العدد الكبير من السنين. يا أيها الأحرار:
إن أعداءنا وأعداء تركيا يدفعون تركيا إلى هاوية بعيدة القرار، فلا تعتبوا على الجار التركي ولا تملؤوا صفحاتكم بعبارات الذم والتقريع والاحتقار. لا ريب أن مشاهدة العربدة التي يقوم بها النظام السوري مع حلفائه الكبار أمر مخيّب لآمال الثوار، ولكنْ وسّعوا مجال الإبصار ولا تحصروا النظر بهذه الحوادث اليومية الصغار؛ انظروا إلى ثورة سوريا العظيمة كيف تنتزع الانتصار من قلب الإعصار، انظروا إلى مشروع التمدد الشيعي في العالم الإسلامي كيف يذوي وتأكله النار. إن الأيام حُبالى وإنها توشك أن تضع حملها. الأمة إلى خير، سوريا إلى خير بأمر الله الواحد القهار.
المصدر: الزلزال السوري
علي حسين باكير
صبيح أتاسي
أحمد موفق زيدان
سلامة كيلة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة