..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

سورية الآن في مواجهة الأخطار

بشير نافع

٢٧ سبتمبر ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6696

سورية الآن في مواجهة الأخطار
123 العصر مقال.jpg

شـــــارك المادة

أكملت الثورة السورية العام ونصف العام منذ انطلاقتها في منتصف آذار/مارس 2011؛ وما لم يفاجئنا النظام بسقوط مدو، سيعيش السوريون شتاء آخر من الثورة، أكثر قسوة وعنفاً ودموية من سابقه. هذه أطول ثورات العرب عمراً وأشدها وطأة، حتى الثورات العربية حادة الوتيرة ضد الاستعمار الأجنبي في النصف الأول من القرن العشرين، لم تشهد مثل هذا التصاعد والاستمرار في العنف والدمار والموت.

إن كان لهذه الثورة العظيمة أن تتحدث، فلها أن تشهد على صلابة هذا الشعب وعزيمته التي لا تلين على نيل حريته، وعلى وحشية نظام الحكم وسقوط كل مسوغات سيطرته على مقدرات هذه البلاد وشعبها. أحدث هذا العام ونصف العام متغيرات كبيرة وعميقة في الساحة السياسية السورية، في الجسم المسلح للثورة، في قيادة الثورة، وفي طبيعة الموقف العربي، والإقليمي والدولي.
أطلقت الثورة انفجاراً هائلاً في الطاقة والتعبيرات السياسية للشعب السوري. خلال أسابيع قليلة من انطلاق الثورة، وبعد صقيع سياسي طويل، بدا وكأن الشعب السوري كله قد انخرط في الحراك الشعبي وفعالياته:
* لجان تنسيقية تنبثق في كافة أنحاء البلاد؛ أحزاب سياسية تعود من الانزواء والسبات إلى الحياة من أوسع أبوابها؛
* سوريون عاديون يتحولون إلى أصوات وعيون وأدوات بالغة التأثير للثورة؛
* مثقفون يكتشفون هوياتهم وأدوارهم من جديد؛
* سياسيون ونشطون منفيون منذ عقود أو سنوات يعودون إلى قلب الفعل السياسي؛
* وضباط وجنود نشأوا على الطاعة والانصياع للأوامر يكتشفون ذواتهم ويختارون مواقعهم بإراداتهم الحرة.
خلال الشهور الأولى من الثورة، اتسع نطاق الحراك الشعبي ليغطي معظم أنحاء البلاد، مدناً وبلدات، في مظاهرات حاشدة، تصدرتها تلك التي شهدتها حماة وحمص وإدلب.
خرج السوريون بمئات الآلاف، يوماً بعد يوم ومساء بعد مساء، بالرغم من أن الموت كان، وما يزال، يترصد كل من يخرج إلى الشارع. وعمل شبان وشابات، لم يكن من المتصور قبل أسابيع قليلة من انطلاق الثورة انخراطهم في مثل هذه القيامة الشعبية، على إيصال صوت شعبهم وصورته، أسماء شهدائهم وحكاياتهم، إلى أشقائهم في العالم العربي وإلى العالم أجمع.
وكان طبيعياً في مثل هذا المناخ أن يتطور الفعل الشعبي سريعاً إلى المزيد من التنظيم السياسي، وأن تعرف الساحة السياسية حالة من التعددية الواسعة، سيما أن التحرك والاتصال ضمن الفضاء الوطني السوري، وبين الوطن وخارجه، لم يكن سهلاً ولا ميسراً.
حاولت الأحزاب والتنظيمات والشخصيات السياسية القديمة، سيما القومية واليسارية والكردية، إيجاد موقع لها في ساحة الحراك الشعبي، لتؤسس هيئة التنسيق الوطني؛ بينما عملت قوى وجماعات وشخصيات، إسلامية وليبرالية وقومية ويسارية سابقة، متواجدة بين الخارج والداخل، على إطلاق المجلس الوطني السوري.
وبالرغم من سعي الطرفين لإدماج أكبر قطاع من اللجان والمجموعات التي تعهدت تنسيق وتنظيم الحراك الشعبي، ظلت نجاحات هذه المساعي محدودة وجزئية.
كان من المفترض، حتى من وجهة نظر الجامعة العربية والدول العربية والقوى الدولية ذات الاهتمام بالشأن السوري، أن ينجح المجلس الوطني وهيئة التنسيق في ردم هوة الخلاف والتوافق على تشكيل قيادة سياسية للثورة.
ولكن كل محاولات بناء قيادة موحدة تمثل أغلب القوى السياسية الفعالة أخفقت. ما حدث في الحقيقة أن الساحة السياسية ازدادت تشظياً.
عدد من الشخصيات النشطة في الخارج تركت المجلس الوطني، وشكلت تجمعات سياسية مختلفة، لم يعرف أحد على وجه اليقين ما الهدف منها وما المسوغ لتأسيسها.
وعدد آخر من التجمعات والقوى السياسية غادرت هيئة التنسيق، لتنشط مستقلة أو تبدأ مفاوضات للانضمام إلى المجلس الوطني.
الأكراد، الذين يمثلهم أكثر من 16 مجموعة سياسية، استطاعوا، بعد جهد جهيد، وضغوط من رئاسة الإقليم الكردي العراقي، الانضواء في تجمعين كرديين رئيسيين؛ ولكن محاولات إقناع القوى الكردية بالانضواء في إطار المجلس الوطني لم تصل إلى أي نتيجة ملموسة. أما لجان وهيئات التنسيق المحلية، فليس ثمة من يعرف عددها، طبيعة علاقاتها ببعضها البعض، وما إن كانت على استعداد للانضمام لأي من الكتل السياسية الرئيسية.
ولا تقل ساحة القوى المسلحة تشظياً. ففي منتصف صيف العام الماضي، أعلنت مجموعة صغيرة من الضباط المنشقين واللاجئين إلى تركيا تشكيل الجيش السوري الحر، كإطار للعمل المسلح ضد قوات النظام وحماية المتظاهرين. خلال الشهور التالية، تصاعدت وتيرة العمل المسلح في اتجاهين رئيسيين ومتقاطعين في كثير من الحالات:
تجمعات الضباط والجنود المنشقين عن قوات النظام، والأعداد المتزايدة من المواطنين الذين اقتنعوا أن لا سبيل لإطاحة النظام بدون إيقاع الهزيمة بآلته العسكرية.
لم تعد هناك سيطرة حقيقية من قبل الضباط الذين أعلنوا أنفسهم في الخارج قيادة للجيش الحر.
ومع تزايد كتائب المتطوعين، وأعداد الشبان العرب الذين التحقوا بهم، لم تعد مظلة الجيش الحر تفي حتى بالغرض الرمزي الذي كانت تعنيه في نهاية العام الماضي.
جرت محاولات لتشكيل مجالس عسكرية في المدن الرئيسية، وعلى مستوى المحافظات أحياناً، أبرزها مجلس حلب العسكري، يقودها ضباط اختاروا البقاء في الداخل وقادة كتائب وألوية المتطوعين.
ولكن هناك شكوكاً حول ما إن كانت هذه المجلس تسيطر بالفعل على كافة النشاطات العسكرية في مناطقها، وحول علاقة هذه المجالس ببعضها البعض، وعلاقتها بضباط الجيش الحر على الحدود التركية. آخر المحاولات لتشكيل قيادة عسكرية موحدة، تشرف على وتوجه كل أو أغلب قوى الثورة المسلحة في البلاد، تحت مظلة الجيش الوطني، يقودها أرفع الضباط المنشقين رتبة، لم تزل في بداياتها، ولا يبدو أنها تجد ترحيباً واسعاً من قيادات المجالس العسكرية في الداخل، أو من القادة المفترضين للجيش الحر في الخارج.
ما يجعل ساحة العسكرية أكثر تعقيداً أن القوى السورية المسلحة باتت تتلقى بعض الدعم التسليحي من عدد محدود من الدول المؤيدة للثورة والشعب، مثل تركيا والسعودية وقطر. ولكن، وكما كل حالة ثورية بالغة التعدد، وفي ظل ظروف حركة واتصال غير آمنة، فإن عملية توزيع الدعم وإيصاله لمناطق البلاد المختلفة لا تبدو دقيقة ولا منظمة ولا تتسم بمعرفة صحيحة بحجم القوى وفعاليتها دائماً.
مثل هذا الوضع، تسبب في المزيد من التنافس والتشظي العسكري. على الصعيد العربي، وبعد تردد أولي، تبلور ما يشبه الإجماع على ضرورة إجراء تغيير سياسي شامل وعميق في سورية، يستجيب لمطالب الشعب. ولكن طول أمد الثورة السورية، أظهر استعدادات مختلفة لدى الدولة العربية لتقديم العون للسوريين.
في النهاية، برزت قطر والسعودية باعتبارها الأكثر جدية والتزاماً بالوقوف إلى جانب الشعب السوري، بينما اتخذ العراق موقفاً مناهضاً من الثورة ومؤيداً للنظام؛ أما لبنان، فانقسمت أجهزته، طبقاً للانتماء الطائفي لقياداتها.
المكسب الأكبر للثورة على الصعيد العربي، تمثل في صعود  د. مرسي لموقع الرئاسة في مصر وحسمه للصراع على قيادة الجمهورية، ومن ثم تبلور سياسة مصرية حاسمة بالوقوف إلى جانب الشعب السوري ومطالبه.
على الصعيد الإقليمي، انحازت تركيا إلى جانب الثورة والشعب، بعد أكثر من خمسة شهور من تبني سياسة تدعو إلى الإصلاح السياسي العميق والشامل بقيادة بشار الأسد.
ولكن إيران، من جانب آخر، اتخذت موقفاً مؤيداً للنظام وبقائه، تصاعد تدريجياً إلى تقديم العون المالي والعسكري والعملياتي.
أما على الصعيد الدولي، فبعد الاضطراب والتردد الذي شاب موقف الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن، سارعت الدول الغربية إلى تأييد الثورة السورية ومطالب الحركة الشعبية.
ولكن هذا التأييد، وبالرغم من تعبير قطاعات سياسية وشعبية سورية عن دعوتها لتدخل دولي فعلي، سواء بفرض حظر جوي جزئي أو إنشاء منقطة عازلة، لم يترجم إلى خطوات ملموسة. ولكن النظام السوري في المقابل لا يعدم الدعم الدولي، سيما من روسيا والصين، الذي يعتقد أنه، على الأقل في حالة روسيا، لا يقتصر على الدعم السياسي في المحافل الدولية.
في تونس ومصر واليمن، نجحت الشعوب في إطاحة نظام الحكم، كلياً أو جزئياً، بدون أن تحدث خللاً كبيراً في مؤسسة الدولة. وسيبقى على أنظمة الحكم الجديدة التي أفرزتها الثورة أن تقدم تصوراً صحيحاً ومرضياً، وتتخذ خطوات ملموسة، لإصلاح أجهزة الدولة ودوائرها المختلفة.
في ليبيا، أطيح الاثنان معاً، النظام والدولة، أو على الأصح بما كان يسمى بدولة في ليبيا. وبالرغم من أن الليبيين تقدموا بخطى حثيثة من أجل إعادة بناء نظام الحكم والدولة، فإن الطريق لم يزل في أوله. ولكن ليبيا دولة صغير نسبياً، وتحدها دول عربية تتمتع بعلاقات وثيقة معها؛ كما أن هناك رغبة إقليمية ودولية قوية لتقديم العون والمساعدة لليبيين.
ولذا، فليس من المتوقع أن تتعثر خطوات ليبيا الجديدة، حتى إن واجهتها بعض الصعوبات.
في سورية، ثمة تآكل تدريجي لجسم الدولة وأجهزتها، بلغ شأواً متقدماً، بينما لم يزل نظام الحكم، بأدواته العسكرية والقمعية، في مكانه.
عندما تأتي لحظة انهيار النظام، ستواجه سورية وضعاً بالغ الحرج والخطورة، ليس فقط للتشظي السياسي والعسكري المتفاقم في ساحة الثورة وفقط، ولكن أيضاً للمصالح العربية والإقليمية المتدافعة والمتعارضة، وللمخاطر التي تحيط بسورية، سيما من جوارها الإسرائيلي.
وهذا ما يلقي بمسؤولية متعاظمة على كاهل قوى الثورة السورية المختلفة، وعلى كاهل الشعوب والقوى العربية المؤيدة لسورية وشعبها.
فمن ناحية، يجب العمل من أجل وضع نهاية لهذا التشظي السوري السياسي والعسكري؛ كما يجب بذل جهود أكبر من أجل تأمين سورية الجديدة في مواجهة المخاطر الإقليمية والدولية التي تحدق بها.
في حال استمرار الأوضاع الحالية، فإن ما سيهدد سورية بعد سقوط النظام قد يفوق تهديد العصبة الحاكمة وأدواتها، بكل ما تمثله من وحشية.

 

المصدر: العصر

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع