محمد كمال الشريف
تصدير المادة
المشاهدات : 8814
شـــــارك المادة
اليوم أكملت الثورة السورية عاماً كاملاً ودخلت في عامها الثاني منذ انطلاقتها المترددة، بينما هي اليوم ثابتة لاتتردد ومصرة على تحقيق أهدافها مهما عظمت التضحيات وكثر الشهداء. الثورة السورية قامت بشكل ارتجالي وكرد فعل على الإهانة ومحاولة الإذلال التي وصلت إلى حد إجبار الناس على تأليه الرجل الذي يطالبون برحيله بل محاكمته وإعدامه، وإرغام الناس على السجود لصورته كما يسجد المصلي لخالقه. الثورة السورية ثورة كرامة لا ثورة جوع وخبز، فالسوريون رغم صعوبات الحياة كانوا في حال أحسن من حال شعوب عربية أخرى ثارت على حكامها وأحرق بعضهم نفسه من أجل لقمة العيش.
كانت الأمور الاقتصادية سيئة لكنها في تقديري وأنا أتكلم عن معايشة مباشرة، لم تكن من السوء بالقدر الذي يجعل الناس يتظاهرون ويتلقون الرصاص في صدورهم، فالإنسان بفطرته يحب الحياة ويتمسك بها إلى أبعد الحدود ولا تهون عليه من أجل تحسين رفاهيته المعيشية، لكن لدى الإنسان أشياء أغلى عليه من حياته وفي أمتنا العرض والكرامة ترخص الحياة فداء لهما. عندما بدأت التظاهرات كانت محدودة وكان النظام يتمتع بشعبية كبيرة لدى الكثير من السوريين ولدى العرب خارج سورية، فقد كان نظاماً ممانعاً وغير مطيع لإسرائيل وأمريكا، في حين كان النظام المصري يعمل لصالح إسرائيل على المكشوف ودون حياء أو مبالاة بمشاعر المصريين. صحيح أن ممانعة النظام السوري لم تحرر الجولان لكن المثل الشعبي يقول: الرمد ولا العمى، أي الرمد أهون من العمى. كانت ممانعة النظام الكلامية في أكثر الأحيان تبدو في عيون السوريين وباقي العرب الذين رأوا أنظمتهم تبالغ في التذلل لإسرائيل وأمريكا وتتنازل عن مصالحهم المعيشة إرضاء لإسرائيل، كانت هذه الممانعة محل تقديرهم واستحسانهم رغم عيوبها التي لم تكن قليلة. يقولون الأعور بين العميان ملك، والنظام السوري في ممانعته نصف الجادة وحديثه عن السلام العادل والحقوق العربية التي لا يحق لحاكم أن يتنازل عنها، كان بالمقارنة مع أنظمة عربية أخرى بطلاً ومناضلاً. صحيح أنه لم يحقق شيئاً يذكر على أرض الواقع، لكن مجرد ممانعته وعدم مطاوعته لإسرائيل وأمريكا كان شيئاً محبباً إلى نفوس العرب الذين شعروا بالذل والمهانة التي عرضتهم لها أنظمة خائنة خيانة لا تخفى على أحد. إذاً بدأ بعض السوريين احتجاجات محدودة لم أكن أتصور أنها يمكن أن تتطور إلى ثورة قوية وعنيدة تستعصي على كل محاولات النظام لقمعها واستئصالها، وكنت في نفسي حزيناً لأنني توقعت أن يقوم النظام الذي له تلك الشعبية وعلى رأسه رجل محبب للنفوس ببعض الخطوات التي سترضي الناس قليلاً وتؤجل بلوغهم حد الثورة ربما لسنين عديدة، وهذا كان يعني أن يطول عمر النظام الذي كنت أدرك إلى أي مدى هو نظام سيء ولا أمل فيه في أن يحقق لنا شيئاً لا على مستوى معيشة السوريين ولا على مستوى تحرير الأرض المغتصبة. كنت أغبط المصريين والتونسيين رغم أنني أعلم جيداً أن التغيير في تونس ومصر لن يكون جذرياً، وأشعر بالأسى على السوريين الذين بدا لي أن عليهم تحمل نظامهم الفاسد المتخلف الذي يخدعهم بالكلام المعسول ويدغدغ مشاعرهم الوطنية والقومية دون أن يحقق شيئاً ملموساً لهم، بينما هو يستأثر بخيراتهم ويحتكر الحياة السياسة ويعاملهم معاملته لقطيع عليه السمع والطاعة ولا يحق له إبداء رأي أو اعتراض، في الوقت الذي تحرر فيه الناس حتى في الدول التي كانت شيوعية. لكن حدث شيء لم أتوقعه أسعدني رغم مأساويته. لقد حاول النظام القضاء على الاحتجاجات بقسوة بالغة كانت كفيلة قبل ثلاثين سنة أن تخمدها إلى غير رجعة. بالغ النظام في القتل والاعتقال والتعذيب حتى الموت، وحتى يجعل الأسر في درعا تلم أولادها وتمنعهم من القيام بأية حماقات أعاد طفلاً ينطق وجهه بالبراءة إلى أهله جثة تحمل آثار وحشية لا مبرر لها على الإطلاق، الكدمات على جسده الطري ورقبته مكسورة وذكره مقطوع وطلقة في صدره وطلقة ثانية في ذراعه اليمنى اخترقتها ودخلت في بطنه وطلقة ثالثة اتخذت المسار نفسه في الجهة اليسرى. تفنن وإبداع في الوحشية والقسوة على طفل قيل أنه كان يحاول إيصال بعض الطعام لأقربائه المحاصرين في درعا. كان بإمكان النظام التخلص من جثة حمزة الخطيب ودفن جريمته معها، لكن الجريمة كانت مقصودة لبث الرعب في نفوس الآباء والأمهات ليتولوا بأنفسهم تقييد أولادهم وليمنعوهم من التورط في أي نشاط فيه خروج على الخضوع الذليل الذي كان يعيشه السوريون، ومعروف أن المراهقين هم أسرع الناس لتقبل الجديد وللاندفاع وراء أي دعوة تدعو إلى المثاليات وللتضحية بأنفسهم في سبيل ذلك، فهم ليس لديهم أولاد يخشون عليهم أن يعانوا اليتم والفقر من بعدهم. كان ما فعلوه بحمزة الخطيب مقصوداً ومتعمداً وله هدفه. كانوا يستبيحون كل محرم لتحقيق غاياتهم. لكن كما أشعلت النيران التي احترق بها البوعزيزي في تونس ثورة كاملة فإن صورة حمزة الخطيب أيقظت الكثيرين من السوريين من غفلتهم وفتحت أعينهم ليروا عيوب النظام الذي كانوا مخدوعين به، وأعلنها السوريون ثورة الكرامة والحرية. كان من السهل القضاء على الثورة في سورية وهي برعم صغير ليتأخر تحرر السوريين من طغاتهم ربما جيلاً آخر وذلك بالتعامل معها برفق وسياسة وكياسة، لكن النظام قدم لنا خدمة عظيمة لم يقصدها، لقد خلق بحمقه واستكباره ثورة في سورية ما كان لها أن توجد لولا أفعاله المخزية التي أسقطت عنه ورقة التوت التي كان يستر سوءته بها، فإذا به كله سوءات لكن الغشاوة كانت تغطي أبصار الكثيرين، وبفضل النظام السوري بدأت الغشاوة تنجلي. الثورة في سورية من صنع النظام السوري، وهي بالدرجة الأولى رد فعل على ازدرائه للسوريين ومعاملته لهم معاملة السادة الظالمين للعبيد المقهورين. النظام يقوم على مجموعة من أناس لا أخلاق لهم، بعكس بشار الذي هو استثناء بينهم، لذا استخدموه قناعاً يخفي حقارتهم. كانوا مختبئين خلفه يعيثون فساداً، والسوريون يظنون بشار واحداً من جماعة كبيرة من أمثاله، ولم يكونوا يدركون أنه كان الوحيد الذي يتمتع بالطيبة والصدق في مواقفه وبخاصة تجاه إسرائيل، لكنه كان عاجزاً وهو الحمل الوديع بين قطيع من الذئاب الذين لا يحللون ولا يحرمون والمستعدون لأن يقترفوا أية جريمة للمحافظة على تسلطهم على البلاد والعباد. قسوة القمع ووحشيته، رغم سلمية الاحتجاجات وعفويتها، كشفت للكثيرين مقدار الحقارة والنذالة التي يتمتع بها حكامهم، إذ ليس بشار الحاكم الحقيقي في سورية. وإن كان يبدو لي أنه رضي أن ينضم إلى عصابة من الحثالة تسيطر على البلاد ربما ليأمن على نفسه وعائلته الصغيرة، وربما استمراءً للذة السلطة المطلقة التي أوهموه أنه يتمتع بها، مع المال الكثير الذي قيل إن بشاراً يحب جمعه بعكس أبيه الذي لم يعرف عنه أنه ترك ثروة فاحشة تؤمن مستقبل أولاده، اللهم إلا سورية كلها، التي كانت بمثابة مزرعة كبيرة له، هي ومن عليها من المواطنين المخدوعين المستعبدين. وحشية النظام وغباؤه في التعامل مع احتجاجات بعض من تجرأ من السوريين على المطالبة لا بإسقاط النظام أو تنحي الرئيس بل المطالبة بالحرية والإصلاح ولو في ظل النظام نفسه، هذه الوحشية والاعتداء على كرامة الناس استفزتهم فثاروا لكرامتهم، وثاروا غضباً لمقتل أقربائهم وأصدقائهم وأبناء عشائرهم الذين لم يكن ذنبهم إلا أنهم هتفوا للحرية وأيديهم خالية من أي سلاح وصدورهم عارية لرصاص الوحوش الذين يحكمونهم. وانتقل الثائرون من المطالبة بالحرية والإصلاح إلى المطالبة لا بتنحي الرئيس كما طالب المصريون من قبلهم بل المطالبة بإعدام الرئيس الذي كانوا يحبونه وانكشف أمامهم عن مجرم يستخدم براعته في الكلام لتبرير جرائم رجالات نظامه المخزية لمن لديه ذرة من حياء أو أخلاق أو مبادىء. ومن فضل الله على السوريين أن النظام مجموعة من الأغبياء المغرورين الذين لا يتعلمون من أخطائهم أبداً، والذين أعماهم غرورهم واستكبارهم فصاروا عاجزين عن أن يبصروا المستنقع الذي وقعوا فيه والهوة التي يسقطون فيها يوماً بعد يوم، فلا يخطر ببالهم استدراك الموقف ليخرجوا منه بأقل الخسائر لهم ولعائلاتهم. لقد أضل الله أعمالهم وصاروا مثل أحمق يريد أن يطفئ ناراً بصب الزيت عليها، وكلما زادها الزيت اشتعالاً زاد هو من الزيت الذي يصبه عليها ليطفئها، وهكذا الثورة السورية تقوى وتتعاظم كلما أمعن النظام بالقتل والتعذيب والاعتداء على الأعراض، الذي بلغ حد ارتكاب المذابح بحق النساء والأطفال. الأغبياء يتصورون الشعب الثائر مثلهم لو تهددت سلامة أحدهم وسلامة أولاده لاستكان وخضع وانقاد. كان السوريون هكذا قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، وكان قطع رأس القط من ليلة العرس كما يقال يبث الرعب في نفوس البقية ويضمن خضوعهم وانقيادهم، كان السوريون يعانون من الوَهَن الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي حب الحياة حتى لو مع الذل وكراهية الموت حتى لو من أجل الكرامة. لقد نشأ جيل من السوريين لا يهاب الموت ولا يرضى أن يبقى مستعبداً فزادت المظاهرات وتوسعت وخرجت في مناطق لم تخرج فيها من قبل كلما بلغ الناس أخبار القتل والتعذيب والاعتداء على الأعراض. إنهم بدل أن يخافوا ويلوذوا ببيوتهم حرصاً على سلامتهم خرجوا يتحدون القتلة ويرحبون بالاستشهاد في سبيل العيش بكرامة صاروا يستحقونها. وهكذا تطورت الثورة من اجتماع روح العزة التي لا يريد النظام أن يدرك أن السوريين صاروا يتحلون بها على أوسع نطاق، مع أسلوب أكثر من غبي حاول النظام به أن يقضي على الثورة التي قامت ثأراً لكرامة أهينت ولنفوس بريئة قتلت.. حاول أن يقضي عليها بمزيد من الإهانة والإذلال والقتل والتعذيب وهتك الأعراض، أي بالمزيد من الأفعال التي أشعلت الثورة حين صادفت نفوساً كريمة تأبى الذل والهوان، ورافق ذلك كله انكشاف النظام للكثيرين من الذين كانوا مخدوعين به. وهكذا كان للنظام فضل التعجيل بثورة السوريين من أجل حريتهم وكرامتهم ومن أجل دولة العدالة والمواطنة التي يتساوى فيها أبناؤها على اختلاف أديانهم وأعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وتتكافأ فيها فرص الجميع فيكون الأصلح هو الذي يسود في المجتمع، ونتخلص من الحال البائسة التي نحن عليها اليوم، حيث يسود العشيرة أرذلهم، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. إن سلمية الاحتجاجات، ومحاربة النظام لها بالرصاص الحي، مع ادعائه أن العصابات المسلحة هي التي تقتل المتظاهرين ضده، بينما لا يصاب المتظاهرون المؤيدون له بخدش، هذه السلمية رغم الاستفزاز ومحاولة النظام جر الثائرين إلى السلاح فضحت النظام وعرَّته أمام الذين كانوا مخدوعين به، وألهبت مشاعر الكثيرين الذين يكرهون الظلم والقهر، فإذا بهم يرون الظلم والقهر مجسدين وواضحين وضوح الشمس في أفعال النظام. ومما ساهم في فضح النظام أنه استعان بالشبيحة، وهم نوع من المافيا والعصابات التي كونها بعض آل الأسد في مناطقهم للسيطرة على الناس حولهم، علوية كانوا أو سنة أو مسيحيين، فلا كرامة لأحد إلا لآل الأسد والباقون درجة ثانية حتى لو كانوا علويين، إلا إن هم انضموا إلى عصاباتهم من الشبيحة الذين لا يخضعون للقانون ولا لأعراف الناس وتقاليدهم ولا يعرفون حلالاً أو حراماً، فمن كان معهم شاركهم بعض المنافع دون أن يشاركهم العلو في الأرض، إذ لا بد له أن يرضى أن يكون وراءهم وأدنى منهم. هؤلاء الشبيحة المرتزقة من المجرمين وأشباه المجرمين جندهم النظام ليكسر بهم إرادة الثائرين لكرامتهم، فزادوا الطين بلة بأخلاقهم المنحطة وتعاملهم مع السوريين كعبيد آبقين يجب ردهم إلى ربقة العبودية، أو فالقتل حق عليهم. النظام بحاجة إلى رجال يواجهون المتظاهرين بحقد وبلا ضمير، وظن أن الشبيحة بميولهم الإجرامية خير من يقوم بالمهمة، فقد كان الهدف هو الردع والإرهاب وقتل كل من يتجرأ على أسياده. هؤلاء الشبيحة لا يعرفون حقوق الإنسان لأنهم لا يرون ولا حتى لأنفسهم أية حقوق أمام أسيادهم، اللهم إلا الفتات الذي يرمونه لهم كما يرمي الرجل الطعام إلى كلبه الذي يحرسه وهو سعيد بالفتات وبرضى مولاه عنه. هؤلاء الشبيحة يرون أنفسهم ويرون السوريين الباقين عبيداً لأسيادهم من آل الأسد ومن معهم، وهم لن يتعاملوا برحمة أو احترام حتى مع أبناء طائفتهم وعشائرهم إن هم تمردوا على الأسياد أولياء النعمة. لذا هم يقتلون المتظاهرين قتل الحاقد المتشفي لمجرد أنهم هتفوا للحرية، لأنهم هم أنفسهم لا يشعرون أن من حقهم أن يتمتعوا بالحرية والكرامة إلا ما يجود عليهم به أسيادهم. لذا هم عاجزون عن الشعور بما يشعر به السوريون المطالبون بالحرية والكرامة وعاجزون عن التعاطف معهم، إنما هم في نظرهم خاطئون يستحقون العقوبة وفاسدون يجب استئصالهم قبل أن تنتقل عدوى فسادهم إلى غيرهم. هؤلاء الشبيحة هم مستعبدون أكثر من غيرهم من السوريين، لكنهم لم يتحرروا في داخل نفوسهم، ولم يستشعروا الحاجة للتخلص من السادة المتسلطين الذين يستأثرون بخيرات البلاد ويستكبرون على العباد. المهم حدث ما أسعدني، وفشل النظام في التعامل مع الاحتجاجات بذكاء وسياسة ومكر، ولجأ إلى الأسلوب الذي حول الاحتجاجات المتفرقة إلى ثورة شعبية عارمة يتعاظم زخمها يوماً بعد يوم. كم حمدت الله على هذه النعمة التي أرتني أن النظام زائل لا محالة ويحفر قبره بيده. إن الدماء التي أريقت بلا حق والأعراض التي انتهكت بقصد إذلال أهلها وترهيبهم هي التي استفزت النفوس الأبية الكريمة التي لا ترضى بالذل أو الظلم وصنعت في سورية ثورة ما كنا نحلم بها. اعذروني فأنا من جيل تربى على الخوف، في زماننا كان تدمير حي من أحياء حماة فوق رؤوس سكانه كافياً لإخضاع الجميع لدكتاتور مستبد عشرين عاماً وعشرة ثالثة لوريثه وولي عهده. ربما كنتم أنتم يا شباب تشعرون أن الثورة آتية لا محالة بينما أنا لا أدرك إلى أي مستوى من العزة وصلت نفوس أبناء أمتي. لقد أذهلتمونا ببطولتكم واستهانتكم بالموت في سبيل كرامتكم وحريتكم وأخجلتمونا وصار أكثرنا يرى أن عليه اللحاق بكم والسير وراءكم، ولكنني وأنا الذي لا أجرؤ على الخروج في مظاهرة ولا على مجرد الإفصاح عن اسمي الحقيقي وأنا أخاطبكم، ولست في لياقة تساعدني على الهرب من بطش الشبيحة ورجال الأمن المخيفين إن ركضوا خلفي يريدون اعتقالي، أنا وأمثالي نملك لكم الكثير مما سيفيدكم كي تنتصر ثورتكم وتحقق أهدافها. إننا نحن المسنين الجبناء نمتلك من الحكمة ما أنتم في أمس الحاجة إليه، إنها الحكمة التي اكتسبناها على مدى العمر الطويل والقراءات الكثيرة وخبرات الحياة وتجاربها وما مر علينا من أحداث هي تاريخ بالنسبة لكم يصلكم وصفه الصادق حيناً والكاذب أحياناً أخرى، بينما نحن عشناه واقعاً حياً بكل آلامه وأحزانه. إن روح الاستشهاد التي لديكم وبذل النفس في سبيل الحرية شيء عظيم يستحق الإجلال والانحناء أمامه، لكن ما هو أعظم منه هو أن نستشهد استشهاداً يحقق غاية ويكلف عدونا أكثر من مجرد الطلقات التي يقتلنا بها، إن حب الدنيا وكراهية الموت تجعل البشر يرضون بالذل والهوان، لكن ليس الموت ولا حتى استشهاداً غاية في حد ذاته، وهنا قد يكون لدي ولدى أمثالي ما نقدمه لكم من الرأي والمشورة.. إنني لا أريد ولا أستطيع أن أتسلق على بطولاتكم لأصل إلى زعامة وقيادة لست أهلاً لها، ولا أريدكم أن تمكنوا أحداً من المتسلقين أن يزايد على أرواحكم لتحقيق منصب أو مكانة، لكن هذا لا يعني أن نسايركم في كل ما ترونه حتى لو كان خاطئاً لمجرد أنكم كسرتم حاجز الخوف وتمردتم على قيودكم، فالمثل يقول: صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقَك، والنصيحة هي عدم الغش وعدم كتمان رأي نافع يمكن أن يجعل النتائج أكبر والخسائر أقل، وذلك بسبب استشعارنا النقص أمام بطولاتكم وشجاعتكم مقابل خوف جيلنا وجبنه. أقول هذا لأني أرى الأمور مختلطة على الكثيرين من شبابنا الثائر مما يجعله يطالب بما فيه الشر له بحسن نية، والإنسان قد يطلب من الله الشر وهو يظنه خيراً، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }الإسراء11. لذا سامحوني إن تجرأت على طرح أفكار قد تكون مستهجنة من كثير منكم هذه الأيام، لكني أذكركم أن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها، وعلينا أن نستمع إلى بعضنا بعضاً فإن المؤمنين أمرهم شورى بينهم، ومع أن الأمر الأصل في معناه هو الحُكْم لذا يسمى الحاكم ولي الأمر لكن الشورى خُلُقُ المؤمنين في جميع مجالات الحياة، لأن الاستماع إلى الآراء الأخرى لن يضرنا في شيء، فهو إما أن ينبهنا إلى خطأٍ نحن واقعون فيه، أو يطمئننا إلى أننا على حق وعلى صواب فنزداد عزيمة وإقداماً. أقول هذا لأن كثيراً منا صار ينادي بالتسلح ويدعو إلى التدخل الأجنبي لحماية المتظاهرين وحماية الذين يقتلون كل يوم بلا ذنب. لم يسمع كثيرون منا بمبدأ اللاعنف والمقاومة السلمية التي اشتهر بها غاندي في النصف الأول للقرن العشرين، وقد يظنه بعض من سمع به نوعاً من المثالية ومن إدارة الخد الآخر لمن يلطمنا على خدنا الأول. اللاعنف ليس اختراعاً لغاندي ولا سبقاً له، إنما عرفته البشرية منذ الأسرة الأولى من بني آدم الذين أعطاهم الله من العقل وكمال الخَلْق ما لم يعطه لمخلوق قبلهم. القرآن يروي لنا قصة اثنين من أبناء آدم قدما قرباناً إلى الله فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقال هذا الآخر لأخيه: لأقتلنك. ومع أن حق الدفاع عن النفس لا يعترض عليه أحد، فإن الأخ الصالح أعلن لأخيه أنه لن يدافع عن نفسه، ولئن أصر الأخ الظالم على قتل أخيه الصالح فإنه لن يقاومه، بل سيتركه يبوء بإثمه وإثم أخيه المقتول. تأملوا هذه الحكاية التي يقصها علينا الحق سبحانه وتعالى في كتابه إذ يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{27} لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ{29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ{30} فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ{31} مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ{32} { سورة المائدة}، ربنا يحكي لنا قصة الأخ الذي لم يدافع عن نفسه وهو يعلم أن أخاه يريد قتله ليكون هذا الرجل قدوة لنا ومثالاً، لا ليذمه ويصفه بالضعيف أو المتخاذل. أليس سياق الآيات الكريمة واضحاً في امتداح امتناعه عن مقاومة أخيه بالعنف ولو دفاعاً عن نفسه؟ عندما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في مكة قبل الهجرة إلى المدينة تعرضوا إلى الإيذاء الشديد والتعذيب والحصار، لكنهم أبداً لم يلجؤوا إلى العنف أو إلى أية أساليب كان يمكن أن توصف بأنها غير مشروعة، كسرقة الطعام من أجل البقاء على قيد الحياة أثناء الحصار في شِعْبِ أبي طالب، أو تخليص العبيد المؤمنين الذين كانوا يعذبون حتى يرتدوا إلى الشرك أو يموتوا تحت التعذيب وذلك بفك قيودهم ومساعدتهم على الهروب من سادتهم، إنما كان المسلمون يشترون إخوانهم العبيد المعذبين بالمال الكثير ويحررونهم بالوسائل المشروعة في ذلك المجتمع، وفي الشِّعْب صبروا على الجوع حتى أكلوا أوراق الشجر ولم يحاولوا الحصول على الطعام بوسائل غير مشروعة، وذات يوم دافع أبو بكر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- عند الكعبة فانهال عليه المشركون ضرباً حتى لم يعد يُعْرَف وجهه من شدة ما أصابه لكنه لم يرد بيده أو يدافع عن نفسه بسلاح أو دون سلاح، رغم أن قيم المجتمع المكي يومها تعلي من شأن الإباء والعزة وعدم الخضوع ولو كلف ذلك العربي حياته. في تلك المرحلة لم يكن مأذوناً للمؤمنين أن يلجؤوا إلى أي شكل من أشكال العنف، وكانوا مأمورين أن يكفُّوا أيديهم، ونجد هذا واضحاً في الآية الكريمة التالية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }النساء77. لكن بعد أن هاجر المسلمون والنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وأسسوا دولة، أذن الله لهم بالقتال في سبيله، أما قبل ذلك فكان الحال هو ما تعبر عنه الآيات الكريمة التالية: {8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى{9} عَبْداً إِذَا صَلَّى{10} أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى{11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى{12} أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى{13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى{14} كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ{15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ{16} فَلْيَدْعُ نَادِيَه{17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ{18} كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ{19}العلق19. لا تطعه واسجد واقترب ويداك مكفوفتان غير مبسوطتين بأي عدوان ولا حتى بدفاع عن النفس، إنما هو الثبات والإصرار على الحق والعصيان السلمي. الدفاع عن النفس حق تضمنه الفطرة الإنسانية السوية وتقره شرائع البشر كلها، لكن تركه أحياناً يكون أقوى أثراً من ممارسته وأعظم نفعاً وأدعى لتحقيق الأهداف المطلوبة. نعم قد يؤدي ذلك إلى استشهاد البعض وإلى الظهور بمظهر الضعيف الذليل، لكن فيه تكمن قوة أخلاقية لا يستطيع الخصم أن يتغلب عليها بسلاحه وعضلاته. سيكون هنالك شهداء سواء تم الدفاع عن النفس باليد والسلاح أو تم الامتناع عنه، ولكن أثر هذا الصراع في نفوس الذين يراقبونه سيختلف. ففي حالة الدفاع عن النفس ينتقل اهتمام من يراقب إلى معرفة من سينتصر ويتراجع اهتمامه بعدالة قضية أحد الطرفين ومقدار الحق فيها. أما إن كف أصحاب الحق أيديهم فإن اعتداء خصومهم عليهم باليد والسلاح وعجز هؤلاء الخصوم عن رد الحجة بحجة مثلها وعن إبطال الدعوة بما يثبت خطأها كل ذلك يجعل المراقبين للموقف أو ما يسمى الأكثرية الصامتة يتفكرون بعدالة القضية المطروحة وينكشف لهم زيف ادعاء الخصم الذي لا يعرف إلا لغة القوة لأنه صاحب جسد كبير وعضلات مفتولة لكن لا عقل له ولا قلب. إن الصبر على الأذى مع كف الأيدي عن الدفاع عن النفس يزلزل الأرض تحت أقدام الظالمين، لذا تراهم يحاولون استفزاز أصحاب الحق كي يلجؤوا إلى العنف والسلاح فتكون الغلبة للظالم لأنه قوي ويخسر المظلوم حتى تعاطف الأغلبية الصامتة معه، ويصبح الموقف يشبه حلبة مصارعة يشاهدها الجمهور وهو متشوق لمعرفة نتيجتها أكثر مما هو مهتم بمعرفة من معه الحق من الطرفين المتصارعين. عندما يكون الخلاف والصراع ضمن المجتمع نفسه يصبح أفضل الجهاد كلمة حق يقولها المرء ويتحمل الأذى الذي يقع عليه جراء ذلك دون أن يستخدم يده ولا حتى للدفاع عن نفسه، كما يفعل المتظاهرون السلميون من أجل الحرية والكرامة، وكلنا يعرف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخصوص (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر)، ولهذا حكمة عظيمة أول جوانبها أن اقتتال أبناء المجتمع الواحد أو ما يسمى بلغة عصرنا الحرب الأهلية يهدد المجتمع بأسره، ويذهب فيه الأبرياء ضحايا الفوضى التي يسببها، كما قد يُقْتَل فيه من هم من أنصار الحق لأن المجتمع متداخل ومتشابك وغير متمايز، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }الفتح25. والذي يدعو إلى الإصلاح يجب أن لا يجر المجتمع إلى الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، إذ هدفه تحسين حياة الناس لا انتحار المجتمع أو الانتقام من الخصوم. إذن لا جهاد باليد ضمن مجتمع واحد، إنما الجهاد فيه يكون بأن يقوم المجاهد إلى الحاكم الجائر ويعظه فيقتله هذا الظالم لأنه تجرأ على قول الحق مما قد يجعل باقي أفراد المجتمع يتمردون على سلطته وطغيانه، وعندما يقتل المجاهد بهذه الطريقة فإنه لا يكون شهيداً فحسب بل يكون سيد الشهداء. قال -صلى الله عليه وسلم-: " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ." أما عندما يكون الصراع والخلاف بين دولتين أو بين فئتين متمايزتين غير مختلطتين يمكن للجهاد بقوة السلاح أن يكون هو المطلوب: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }الأنفال60. وذلك كأن يدخل محتل غريب بلداً من البلدان فيكون جنوده معروفين سهل تمييزهم وقتلهم وحدهم دون قتل أي بريء، ولا يكون هؤلاء الجنود أبناء المجتمع نفسه، بحيث يقتل الرجل ابن عشيرته. والعنف لا ينفع عندما تكون الأمور مختلطة والحق غير واضح مع أي جانب هو، وهذا ما يسمى الفتنة، حيث يحتار الإنسان ولا يعرف أي الفريقين على الحق والصواب، عندها يُقْتَل الأبرياء ويقاتل الإنسان تحت راية يكتشف بعد فترة أنها كانت خاطئة عمية، فيندم بعد أن أزهق أرواحاً بغير حق، وأتلف أموالاً ظلماً وعدواناً. لذا يجب أن يكون التغيير ضمن المجتمع الواحد وفي القضايا التي تختلف فيها الآراء تغييراً سلمياً مئة بالمئة نكف فيه أيدينا ولا نبسطها بعدوان على أحد، وبذلك لن يكون هنالك ما نندم عليه يوماً ما. إن محاولة التغيير دون عنف ولا حتى بقصد الدفاع عن النفس تساعد كثيراً على توضح الأمور وانجلائها وعلى تغيير قناعات الكثيرين من الذين لا مصالح شخصية لهم مع الباطل الذي نريد تغييره ومن الذين خدعهم هذا الباطل وأوهمهم أنه الحق وأنه الصواب. الصراع عادة له هدفان أولهما تغيير القناعات وثانيهما كسر الإرادات، أما الصراع الذي يهدف إلى إبادة الخصم إبادة تامة فلا يمكن أن يكون له مكان في النضال من أجل التغيير الاجتماعي والانتقال من مجتمع القهر والكبت والقيود إلى مجتمع الحرية والعدل والمساواة. والصراع في سورية اليوم يهدف إلى تغيير ديمقراطي يشارك فيه الجميع ويستفيد منه الجميع، وحتى ينجح لا بد أن يقتنع أغلب السوريين بالثورة وعدالة قضيتها فيشاركوا فيها كُلٌّ حسب استطاعته، ولا بد لنجاحها من سحب البساط من تحت النظام ليفقد أية شعبية يمتلكها، فإذا فقد كل شعبيته فسيسقط لا محالة، وقد يسقط وقتها على أيدي بعض دعائمه وبمباركة وتأييد حلفائه المخلصين الذين سيجدون مصالحهم مع نظام بديل فيدعمون التغيير. في سورية ما تزال الثورة سنية إلى حد بعيد، ومشاركة أبناء الطوائف أخرى فيها فردية ومحدودة ومترددة، وهذه السلبية من الطوائف الأخرى تصب في رصيد النظام الذي يعتبرها مؤيدة له طالما أنها لم تَثُر عليه حتى الآن. والطوائف السورية غير السنة ليست صامتة لأنها سعيدة في ظل النظام أو مستفيدة أكثر من غيرها، بل لأنها خائفة من البديل القادم أن يكون أسوأ بالنسبة لها من النظام الحالي، وبخاصة في قضايا الحريات الدينية والمواطنة، وهم لن يشاركوا بقوة ويقدموا أرواحهم إلا إن ضمنوا أن المستقبل سيكون أحسن ومكانهم في المجتمع السوري سيكون محفوظاً لهم كسوريين لهم ما لباقي السوريين من الحقوق وعليهم ما على باقي السوريين من الواجبات، ووصولهم إلى هذه القناعة يحتاج من الثورة أن تبقى سلمية مئة بالمئة وأن تتجنب الطائفية تجنباً كاملاً، أما إن تسلحت وأخذت المنحى الطائفي سواء من إنطلاقها من طائفة السنة أو بتركيز عدائها على الطائفة العلوية فإن مخاوف الطوائف الأخرى من المستقبل ستتعاظم وستدفعهم إلى الاستجابة لدعوات التسلح وتكوين الميليشيات الطائفية لحماية أنفسهم في البداية ولتقسيم المنطقة (سورية ولبنان) إلى دويلات طائفية متناحرة في النهاية. لا يمكن للثورة أن تتسلح دون أن تنزلق في مستنقع الطائفية. وعندما تتسلح الثورة وتمارس القتل فإن أثرها في تغيير القناعات يصبح ضئيلاً جداً ويستمر أنصار النظام في الالتفاف حوله وتأييده إلى آخر مدى. أما أعداد الشهداء فكلنا يعلم أنها منذ تكون الجيش الحر وصار يعلن تحرير بعض الأحياء من سلطة النظام تضاعفت مرات ومرات، ولم تكن هنالك حماية حقيقية للمتظاهرين والمدنيين، بل اضطر النظام إلى التعامل مع الأحياء التي تعلن تحررها تعامله مع بلاد معادية هو في حرب معها يستحل فيها كل شيء من أجل الانتصار. صحيح أن ذلك جعله يرتكب جرائم أكثر وينكشف أمام الجميع، لكن كان يمكن تحقيق قدر أكبر من تعرية النظام بشهداء أقل بالطرق السلمية إن تأمنت تغطية إعلامية قوية. إن بقاء الثورة تلعب دور الضحية له أثر بالغ في تغيير قناعات ومواقف واتجاهات الأغلبية التي مازالت صامتة، وبالتالي تغيير ميزان القوى ضمن المجتمع، لكنها القوى غير العسكرية، تلك القوى التي لا يمتلك النظام منها الكثير، وهو عاجز عن المحافظة على ما لديه منها. إنه بغبائه وغروره يخسر كل يوم قدراً من قوته غير العسكرية أي من شعبيته وشرعيته وتعاطف الكثير من السوريين معه، وعلينا أن لا نساعده باستعجالنا وانفعالنا كي يحول الصراع إلى حرب أهلية طائفية سيكون هو المنتصر فيها وفي أسوأ الاحتمالات يقسم المنطقة وينشىء دولة علوية تستأثر بالثروة الغازية العظيمة المكتشفة تحت شرق البحر الأبيض المتوسط، لأن أية دولة علوية ستقوم ستضم الساحل السوري كله وطرابلس لبنان، وسيبقى للسنة دويلة داخلية مخنوقة لا سواحل لها. ليس الحرص على سلمية الثورة المطلقة وعلى التزام مبدأ اللاعنف فيها نوعاً من الطوباوية والمثالية غير الواقعية التي لا يلجأ إليها إلا الضعفاء والمقهورون، إنما هي قوة أخلاقية وتفوق في القيم على الخصم يحرجه ويفقده تعاطف الصامتين، بل ويفقده بعض أنصاره الذين لديهم بقية من قيم وأخلاق، بينما هو عاجز عن مواجهة الثورة في هذا المجال الذي لا يمتلك فيه أية مقومات تعينه على التغلب عليها. تحتاج المحافظة على سلمية الثورة إلى أن يتمتع الثائرون بالثقة بأنفسهم والثبات والرسوخ على الأسلوب الذي يجيدونه ولا يحتاج إلى إمكانات كثيرة، والنظام في الوقت ذاته لا يستطيع مواجهته إلا بالتنازلات أمام الثورة وهذا غير وارد لديه على الإطلاق بسبب غروره بقوته وتقليله من شأن الثورة وتوفر الدعم الخارجي له، أو بمزيد من القتل والبطش مما يعني المزيد من الهزيمة له أمام الثورة من الناحية الأخلاقية والمزيد من زوال انخداع الكثيرين به وبأنه نظام ملتزم بقضايا الأمة وليس عصابة من المنتفعين على حساب الشعب المغلوب على أمره. لكن السلمية وتقديم الشهداء دون دفاع عن النفس لن يفيد إن كان في السر ولم يعلم به أحد، لذا لا بد من سلاح الإعلام لفضح النظام وفضح جرائمه، والذين يُظْهِرون الكرم والاستعداد لتمويل تسليح الثورة سيساعدون الثورة أكثر لو أمَّنوا للثوار وسائل اتصال تمكنهم من نشر أخبار مصورة لما يحدث من احتجاجات سلمية وقمع وحشي لها.. إن هاتفاً محمولاً يتصل عن طريق الأقمار الصناعية أخطر على النظام من دبابة. ولنرجع إلى الحديث النبوي الصحيح الذي قص علينا فيه قصة الغلام المؤمن الذي نشر عقيدة التوحيد في بلد يدعي ملكه الألوهية، وقد روى الحديث الإمام مسلم في صحيحه، وخلاصة القصة أنه كان ملك قديماً يدعي الألوهية وله ساحر يعينه في التأثير في عقول الناس، وكبر الساحر في السن فطلب من الملك أن يبعث إليه غلاماً يعلمه السحر يحل محله في خدمة الملك بعد موت الساحر. بعث الملك غلاماً إلى الساحر ليتعلم منه السحر، وكان الغلام عندما يذهب إلى الساحر كل يوم يمر في طريقه على راهب، فصار يقعد إلى الراهب ويسمع كلامه فأعجبه كلام الراهب عن رب العالمين. ومرت الأيام وفي ذهن الغلام حيرة بين كلام الساحر الذي يؤله الملك وكلام الراهب الذي يقول لا إله إلا الله. وذات مرة اعترض حيوان مخيف طريق الناس وعجزوا عن قتله، فلما رأى الغلام ذلك قال في نفسه اليوم أعرف من الذي على حق الراهب أم الساحر، وأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس في طريقهم، ورمى الدابة المخيفة بحجره الصغير فقتلها، وتيقن أن الراهب على الحق فذهب إليه وأخبره بقصة الدابة المخيفة وكيف قتلها، فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني وإنك ستُبْتَلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.. صار الغلام يبرىء الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع به جليس للملك كان أصيب بالعمى فجاءه بالأموال والعطايا طالباً منه أن يشفيه، فقال له الغلام إني لا أشفي أحداً إنما الذي يشفي هو الله، فإن أنت آمنت دعوت الله فشفاك، فآمن جليس الملك بالله وحده ودعا له الغلام فشفاه الله. ذهب الرجل ليجالس الملك كما كان يفعل قبل أن يصيبه العمى فسأله الملك: من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فاستغرب الملك وسأله مستنكراً: ولك رب غيري؟ فأجاب الرجل: ربي وربك الله. جن جنون الملك وأمر بتعذيب جليسه حتى دلهم على الغلام المؤمن وأنه هو من علمه الدين الجديد، فجاؤوا بالغلام فحاول الملك بالرفق ثنيه عن دينه الجديد واستعادته إلى الولاء له فأخفق، فأمر بتعذيبه حتى دلهم على الراهب، ثم نشروا جليس الملك والراهب بالمنشار لما رفضا ترك دين الحق والعودة لعبادة الملك، وأمر الملك جنوده أن يأخذوا الغلام إلى أعلى الجبل ويطلبوا منه الارتداد إلى دين الملك فإن أبى رموه من أعلى الجبل ليموت، لكن الغلام دعا الله فاهتز الجبل وسقط الجنود وعاد الغلام إلى الملك سالماً، فأمر الملك جنوداً آخرين أن يأخذوا الغلام إلى عرض البحر وأن يرموه في البحر إن هو رفض العودة إلى عبادة الملك، فدعا الله فأغرق الله الجنود وعاد الغلام إلى الملك سالماً، وقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. فقال الملك المتلهف على قتل الغلام: وما هو؟ قال الغلام: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع شجرة ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتضع السهم في كبد القوس وتقول باسم الله رب الغلام ثم ترميني بالسهم فإن فعلت ذلك قتلتني. ففعل الملك كل ذلك أمام حشود الناس فآمن الناس بالله وحده وتركوا عبادة الملك، ثم أمر الملك بحفر أخدود وإضرام نار فيه يلقى فيها كل من يصر على الدين الجديد، والأخدود مذكور في سورة البروج[{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ{1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ{2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ{3} قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ{10}] انظروا إلى الغلام المؤمن كيف وظَّف استشهاده لنشر دعوة الحق، فكان موته دون دفاع عن النفس، لكن بذكاء ودهاء، وأمام جموع الناس،كان وبالاً على الملك المتأله وزلزالاً لملكه. الشهداء واقعون لا محالة سواء دافع الجيش الحر عن المتظاهرين أم لم يدافع، لكن علينا التفكير والتساؤل: أي الأسلوبين يجعل دماء هؤلاء الشهداء وصمة عار وفضح لنظام لا أخلاق له بحيث يفقد الاحترام والتأييد من كل الشرفاء ولا يبقى معه إلا المنتفعين الذين ما أن يشعروا أن هناك بديل محتمل حتى يلتفوا حوله ويتخلوا عن النظام الذي خدموه واستفادوا منه لأن العلاقة بينهم هي المنفعة لا المحبة والوفاء؟. لا تستهينوا بالناحية الأخلاقية التي لا يقدر النظام على الانتصار فيها، فمنها يستمد أي نظام شرعيته، وإذا فقد النظام شرعيته فقد معها شعبيته وصار سقوطه حتمياً. النظام حريص على عسكرة الثورة وعلى تحويلها إلى صراع طائفي وقد فصلت هذه النقطة في مقالاتي الثلاثة السابقة عن الثورة السورية، لكنني في هذا المقال أريد أن أبين أنه ليس النظام وحده من يحرص على عسكرة الثورة وجعلها طائفية، هنالك إسرائيل وأمريكا اللتان ليس في منظورهما خير من النظام إلا تحقيق حلمهم في الشرق الأوسط الجديد، أي تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية. لذا فإنهم لا نية لهم بأي تدخل عسكري مثل الذي قاموا به في ليبيا حتى لو تكفلت الدول العربية النفطية بكلفته، لأنهم لا يريدون بديلاً عن النظام إلا التقسيم والدويلات الطائفية. إنهم مازالوا على استعداد للرضى ببقاء النظام في حال انتصاره على الثورة لأنه وقتها سيكون أضعف كثيراً ومستعداً أكثر للسير في ركابهم وخدمة مصالحهم، أما مجيء نظام ديموقراطي حقيقي كما هو الحال في ليبيا فليس مما ترحب به إسرائيل بل هو ما تخشاه وتحرص على تأخيره، لأن أي حكم ديمقراطي في سورية لن يكون مريحاً لإسرائيل بعد الصحوة الإسلامية التي تعم المنطقة وبعد الشحن القومي الذي مارسه النظام منذ حوالي خمسين سنة. إسرائيل، وأمريكا التي لا تجرؤ على مخالفتها، تحرصان على بقاء النظام، وإلا فالحل البديل المقبول منهما هو تقسيم البلاد، لذا هم لا يزعجهم الفيتو الروسي والفيتو الصيني في مجلس الأمن، بل يعطيهم عذراً لتقاعسهم في تقديم أية حماية حقيقية للسوريين من نظامهم. هم لا يريدون تقديم هذه الحماية، بل هم يعطون النظام الضوء الأخضر تلو الضوء الأخضر والتطمين تلو التطمين ليتورط أكثر في جرائمه، الأمر الذي إما أن يؤدي إلى القضاء على الثورة، وهو شيء ترغب فيه إسرائيل وأمريكا، أو يؤدي إلى المزيد من الاستنجاد من السوريين بالتدخل الخارجي الذي يُعْرَض عليهم بدلاً منه تسليح الثورة ممثلة بالجيش الحر ووضعها على طريق الحرب الأهلية الطائفية التي لن تقف إلا بعد تقسيم المنطقة. هم ليسوا في عجلة من أمرهم ومرور الوقت وارتكاب النظام للمزيد من الجرائم يخدمهم سواء انتصر النظام على الثورة أو تحولت الثورة إلى حرب أهلية طائفية. أمران أحلاهما مُرٌّ بالنسبة للسوريين وأكثرهما مرارة حلو بالنسبة لإسرائيل، فعلى كلا الحالين تكون هي المستفيدة ونكون نحن الخاسرين. وهنالك فرنسا ومعها أوربا لا تريد التدخل الخارجي أو عسكرة الثورة وتحولها إلى حرب طائفية تقسم البلاد، لا حباً فينا ولا حرصاً علينا، ففرنسا هي التي قسمت سوريا ولبنان إلى دويلات طائفية بمجرد أن احتلتهما، ولم تتوحد سورية الحالية ويبقى لبنان مفصولاً عنها إلا بعد نضال طويل شارك فيه السوريون بكافة طوائفهم، وهذا تاريخ معروف وسهل الاطلاع عليه لكل من يستخدم الانترنت. فرنسا لا تريد تدخل أمريكا ولا تريد العسكرة والتقسيم لأنهما سيؤديان إلى خسارتها لسورية ولبنان كمنطقتي نفوذ وكمستعمرتين سابقتين، والذي يراقب الجهود الفرنسية والتي يقوم بها حلفاء فرنسا في الوطن العربي من حكومات أو شخصيات عامة بعضها ممثلة لفصائل من الثورة السورية يلاحظ هذا الحرص الفرنسي على إقناع السوريين وغيرهم أن التدخل الأجنبي العسكري وعسكرة الثورة خطأ كبير وأضراره أكثر من فوائده. مع ذلك علينا أن لا نتوقع من فرنسا أكثر مما هي مستعدة لتقديمه، فهي إن نجح التوجه إلى عسكرة الثورة والصراع الطائفي والتقسيم فسيكون المسيحيون والعلويون حلفاءها، وستحرص على ولائهم ليبقى لها موطىء قدم في المنطقة وورقة تستعملها كلما احتاجت إليها. الفرنسيون لن يدخلوا معركة لا قِبَلَ لهم بها مع إسرائيل وأمريكا رغم أنهم لا يفضلون ما ترغبان به من تقسيم، لكنهم واقعيون كما أثبتت تجربة التحالف الدولي ضد العراق حيث انضموا إليه ليفوزوا ببعض الغنائم ولا يخرجوا من المولد بلا حِمَّص كما يقال، وهم سيفعلون الأمر ذاته إن لزم بالنسبة لسورية ولبنان. السوريون يلحون على التدخل الخارجي والحماية الدولية كلما أمعن النظام في جرائمه، وهم لطيبتهم لا يعرفون حقيقة الغربيين الذين لا يحرك مقتل الآلاف بل ولا حتى مئات الآلاف منا فيهم ساكناً. ارجعو إلى تاريخ المذابح العرقية في رواندا عام 1994 حيث ذبح خلال ثلاثة أشهر حوالي مليون من النساء والأطفال والرجال العزل من قبائل التوتسي على يد المتطرفين من أبناء قبائل الهوتو، وكان أكثر القتل يتم بالسكاكين والمناجل لأن كلفة الرصاص كانت فوق طاقة القاتلين، ويومها أرسل الفرنسيون والأمريكان ألف جندي ليضمنوا سلامة رعاياهم وليقوموا بإخراجهم خارج رواندا، بينما كان كل يوم يقتل حوالي العشرة آلاف من المستضعفين، وكان بمقدور الدول الغربية إيقاف هذه المذابح وإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح البريئة بسهولة ويسر لا يقارنان بما يحتاجونه الآن لإنقاذ السوريين من بطش نظامهم. اكتبوا في أي محرك بحث على الانترنت رواندا بالعربي أو الأجنبي واقرؤوا عن تلك الأيام التي ستبقى وصمة عار إلى الأبد في جبين الدول الغربية. لن يأتوا لإنقاذنا من نظامنا رحمة بنا أو نخوة وشهامة، فهم فاقدون لكل ذلك، إنما قد يأتون ليحققوا أطماعهم وأحلامهم وأطماع إسرائيل وأحلامها. علينا أن لا ننخدع بتصريحات وزراء عرب يَدَّعون الحرص على الشعب السوري ويطالبون بتسليحه، فهؤلاء ليسوا أحراراً في مواقفهم، بل من يتبع أمريكا منهم ينادي بعسكرة الانتفاضة ويبدي استعداده لتمويل هذه العسكرة، ومن يتبع فرنسا منهم ينادي ضد ذلك ويدعو إلى بقاء الثورة سلمية ويدعي أنه يريد ذلك من أجلنا وحرصاً علينا. لا يمكننا الحكم على صدق نوايا هؤلاء وهؤلاء إلا لو كانوا أحراراً وقادرين على اتخاذ مواقف مستقلة ينطلقون فيها من مشاعرهم نحونا ومصالحهم عندنا. هم واقعون تحت الضغط والتوجيه من القوى الاستعمارية التي ما زالت تملي على بلادنا ما تشاء من سياسات ولا تجرؤ دولنا على مخالفة هذه الإملاءات إلا تحت طائلة التعرض للعقوبة والتأديب. حتى تركيا وحكومتها المتعاطفة معنا - لأنها في الأصل ذات توجه إسلامي - لم تستطع الخروج عن السياسة الأمريكية بما يخص الثورة السورية إلا عندما ضغطت عليها فرنسا بتشريع قانون يجرِّم إنكار المذابح التي يتهم الأرمنُ الأتراكَ بارتكابها في حقهم في بدايات القرن العشرين، وتأملوا كيف طويت القضية وصارت تركيا مستعدة لتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا الثاني الذي يروج لوجهة النظر الفرنسية. ولفرنسا تأثير على كثير من شخصيات المعارضة السورية التي تشارك فرنسا موقفها السلبي من عسكرة الثورة السورية، وحتى المعارضون اليساريون الذي لديهم موقف واضح من أي نفوذ أو احتلال أمريكي متوقع لسورية يتلقون التشجيع ولو إعلامياً من فرنسا وحلفائها لأن مواقفهم تلتقي مع مواقفها النابعة من مصالحها. هذا لا يعني أن شخصيات المعارضة التي تنادي بعسكرة الثورة هم عملاء لأمريكا وإسرائيل، ولا يعني أن الذين يعارضون التدخل الخارجي وعسكرة الثورة هم عملاء لفرنسا أو عملاء للنظام السوري. في خضم هذه الفتنة كثرت الاتهامات بالخيانة والعمالة ولعله لم ينج منها أحد من شخصيات المعارضة سواء من ينادي بالتدخل الخارجي ومن يعارضه. والمستفيد الوحيد من هذا التخوين هو النظام السوري، وليس من المستبعد أن يكون رجاله هم الذين يطلقون اتهامات التخوين، وبخاصة أن الأسماء على الانترنت مستعارة ولا يعرف من هم أصحابها وما هي ولواءاتهم الحقيقية. نعم هنالك خونة وعملاء بين شخصيات الانتفاضة كما كان هنالك منافقون زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع أن النبي كان يعلمهم بأشخاصهم لكنه أبداً لم يشكك في إسلام أي منهم، وكان دائماً يأخذ الناس على ظواهرهم ويترك قلوبهم إلى خالقهم، وإن كان القرآن الكريم قد حذر كثيراً من المنافقين لكنه لم يذكر أيا منهم باسمه، بل نبه إلى أن المؤمنين يمكنهم معرفة هؤلاء من لحن القول، ويمكنهم الحذر منهم دون إعلان تخوينهم وتكفيرهم، قال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ {29} وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } محمد 29-30. والمرض في القلوب الذي يتحدث عنه القرآن هو النفاق. علينا أن نتعلم الدرس من ديننا ونبينا الذي لم يشكك في صحة إيمان أي شخص قال لا إله إلا الله، بل كان يأخذ الجميع على ظواهرهم ويعاملهم كمسلمين حتى لو كان على يقين أنهم منافقون. التخوين سلاح ذو حدين لا يمكنك استخدامه دون أن يستخدمه خصمك ضدك، إنه اتهام رخيص لا يكلف شيئاً يبث الشك والريبة بين الثائرين في أنفسهم أو شخصيات المعارضة التي انخرطت في الثورة وتسلمت أدوراً قيادية لأن الثورة كانت ارتجالية ولم تكن ثورة قامت بها قوى منظمة من قبل ولها زعاماتها التي تثق بها. إن التخوين خطير جداً على الثورة السورية ويجب الامتناع عنه والحذر منه مع يقيننا أن هنالك لإسرائيل وللدول الاستعمارية عملاء بيننا، نعم نأخذ الحذر من أطروحاتهم دون أن نهاجم أشخاصهم أو نشكك في ولاءاتهم، لأن ذلك التخوين يمكن أن يستخدم ضد المخلصين كما يستخدم ضد الخائنين. علينا أن نحبط خطة النظام وسعيه لبث الشك بيننا ولإيهامنا أن بعضنا عملاء له ويطمعون بمناصب ينالونها في ظله، ومع أن كل شيء ممكن لكننا يجب أن نكون أشد دهاء من النظام فلا نقع في اللعبة التي يلعبها بأن نخوِّن بعضنا بعضاً أو نصغي لمن يخون بعضنا من الناشطين المتحمسين الذين يغلب على ظني أنهم يقومون بذلك عن حسن نية وبسبب حرقتهم على الذين يقتلون أو يصابون على يد شبيحة النظام وجيشه ومخابراته، لا بد أن نحسن الظن بأنفسنا ونتناقش حول وجهات أنظارنا التي من الطبيعي أن تختلف ونعزو خلافاتنا دائماً إلى اختلاف الرأي والمصالح لا إلى العمالة والخيانة، فإن فعلنا ذلك فإننا نستطيع التوحد والاتفاق على ما فيه خيرنا حتى لو كان بيننا عملاء للنظام أو عملاء لقوى دولية تعمل من أجل مصالحها. كما علينا أن لا نشكك في ولاء السوريين من غير المسلمين أو حتى من اليساريين الذي قد يكونوا ملحدين، وأن لا نبقى أسرى القصة الذي رفض فيها الخليفة عمر بن الخطاب أن يتولى نصراني شأناً حساساً من شؤون الدولة لأنه لم يكن يثق بولاء غير المسلمين، وألح على عامله أن يعزل النصراني، ولما تمسك عامله بالنصراني بحجة أنه ليس هنالك أحد يحسن عمله، أرسل إليه عمر رسالة مقتضبة يقول له فيها: مات النصراني. أي افترض أن هذا النصراني مات وتدبر الأمر من دونه. كان النصراني يومها من أمة مقهورة مغلوبة، ودولة المسلمين كانت دولة قائمة على الشريعة والمسيحيون فيها أهل ذمة يدفعون الجزية، وكل ذلك قد يضعف ولاءهم لهذه الدولة التي غلبتهم وحولتهم في بلادهم إلى ذميين، أما في هذا الزمان فالسوريون من كل الطوائف والأديان مواطنون متساوون ليس فيهم منتصر ومغلوب أو ذمي عليه أداء الجزية، بل هم شركاء في الوطن يخلصون له كما يخلص أبناء أي بلد لبلدهم، وإن كان من الممكن للبعض أن يخون فهذا ينطبق على كل الأديان، واسألوا أهل غزة عن الخونة الكثيرين بينهم الذين يتجسسون لحساب إسرائيل على المقاومة أليسوا كلهم أو أغلبهم مسلمين؟ نفترض الإخلاص والولاء للوطن لدى كل سوري بغض النظر عن عرقه أو لغته أو دينه أو طائفته، ونتعامل مع بعضنا البعض بالثقة، لكن لا ننقاد إلى أحد انقياداً أعمى، وهذا سيحمينا من أن يجرنا أي خائن بيننا إلى ما يريده أعداؤنا، لكن دون تخوين ولا تشكيك بالولاء والنوايا. إن حماسة الناشطين للعسكرة ومطالباتهم المتكررة بتسليح الجيش الحر أو بالتدخل الأجنبي على شكل حظر جوي أو مناطق آمنة أو قصف جوي، واتهامهم لمن لا يتجاوب مع هذه الرغبات من شخصيات المعارضة بالخيانة والعمالة والمتاجرة بدماء السوريين جعل الكثيرين من هؤلاء يقبلون بأنصاف حلول ليسوا مقتنعين بها إرضاء للشباب الثائر، والقليل منهم من أصر علناً على رأي يخالف حماسة الشباب الذين يتلقون الرصاص بصدورهم, وهذا جعل القادة ينقادون للشباب حتى لو كانوا غير موفقين فيما يطالبون به، وأعود وأذكر أن الإنسان قد يدعو الله يطلب ما فيه الشر له وهو يظن أن الخير فيه، وقد يكره شيئاً وهو خير له ويحب شيئاً وهو شر له. قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }الإسراء11. وقال أيضاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216. علينا أن لا نستعجل فنندم، وبخاصة أن المسألة السورية كثرت الأيدي المتدخلة فيها ولم تبق جهة دولية لم تتدخل، لا الغرب ولا الشرق ولا الشيوعيون ولا الإسلاميون، وكلٌّ له أغراضه ولا تهمه مصلحتنا الحقيقية في شيء. وعلينا أن نلجأ إلى رب العالمين ليهدينا سبلنا ويدلنا على ما فيه خيرنا، وأن نفكر بواقعية ودون انفعالات أو رغبة في الثأر والانتقام، فالذي يصاب أو يموت يقع أجره على الله، فإن لم يكن قد اعتدى على غيره فهو شهيد، بل سيد الشهداء. الاختلاف بالرأي أمر طبيعي ولا يشترط أن يكون وراءه سوء نية أو خيانة، إنما هي العواطف ورغبات النفوس أو ما يسمى الهوى يجعل الإنسان يؤمن بوجهة نظر ويعتبرها الحق والصواب بينما الأمر يحتمل وجهات النظر الأخرى، ومثال كأس الماء المملوءة إلى نصفها كيف يقول المتفائل إنها كأس مملوء نصفها بينما يقول المتشائم بل هي كأس فارغ نصفها، وكلاهما على حق لكن اختلفت النظرة، فالأول رأى ما فيها من ماء والثاني لم ير إلا ما فيها من نقص وفراغ. لذا علينا الانتباه إلى عواطفنا التي قد تجعلنا نتبنى آراء ومواقف ربما لم تكن محقة، ونحن نركز على جزء من الصورة ونخدع بذلك أنفسنا بحسن نية ودون أن نشعر، والنتائج الخطيرة لا تغيرها نوايانا الحسنة وإن كانت النوايا الحسنة يمكن أن تعفينا من الإثم إن كنا اجتهدنا فأخطأنا، لكننا رغم حسن نوايانا سنعاني وبال أمرنا وعاقبة أخطائنا. الأمر خطير ويحتاج منا إلى التروي وإلى الاستعانة برب العالمين ليدلنا على الصواب الذي يؤدي إلى الخير ويرضى هو عنه. بُعَيْدَ غزوة أحد وبينما المسلمون يضمدون جراحهم ويدفنون قتلاهم جاءهم من يخبرهم أن المشركين قد تجمعوا ويستعدون للعودة للقضاء على جيش المسلمين، فقال المسلمون حسبنا الله ونعم الوكيل، فهداهم الله إلى الرأي الصائب ورزقهم من فضله ونجاهم فلم يمسسهم سوء. تعالوا نتأمل هذه الآيات الكريمة: [{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ{171} الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{175} ] آل عمران 169- 175. أولاً علينا الانتباه إلى أن النعمة في القرآن إذا ذكرت كان المقصود منها في الغالب نعمة الهداية لا نعمة المال، ففي سورة الضحى يخاطب ربنا نبيه -صلى الله عليه وسلم- الذي وعد المشركين أن يجيب أسئلتهم ولم يقل إن شاء الله فتأخر الوحي كثيراً وأحرج محمد -صلى الله عليه وسلم- وقال المشركون ودَّع محمداً ربه وقلاه، أي كرهه وأبغضه، فنزلت سورة الضحى تطمئنه وتذكره بما يبرهن له أن ربه لم يهجره ولم يبغضه، فقال تعالى: [وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11}] الضحى 1-11. ولنتأمل ما ذكره الله به من نعمه عليه التي كان أولها أنه وجده يتيماً فآواه وطلب منه بالمقابل أن يرحم اليتيم ولا يقهره، وثانيها أنه وجده عائلاً أي فقيراً كثير العيال فأغناه وأمره بالمقابل أن لا ينهر المسكين، وثالثها أنه وجده ضالّاً فهداه وأمره مقابل ذلك أن يتحدث بنعمة الله عليه أي بهدايته التي أوحاها إليه، وليس كما يظن بعضنا أن يتحدث عما أعطاه الله من مال ومتاع، فحتى آخر آية نزلت من القرآن قال المولى فيها: {........ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ..... }المائدة3 ولم تكن نعمة المال هي التي أتمها الله على المؤمنين في ذلك اليوم إنما نعمة الهداية. وقد فصلت في هذا لأني لا أجد ملجأً لنا إلا في التوكل على الله ليكون لنا مثل الذي كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} آل عمران {174}. انقلبوا أي رجعوا بنعمة من الله أي هداية إلى التصرف الصحيح حيث لم ينتظروا في مكانهم عودة المشركين لقتالهم إنما رغم جراحهم شدوا رحالهم يلاحقون المشركين الذين بلغهم أن المسلمين متوجهون إليهم يريدون قتالهم فخافوا وآثروا الفرار بالنصر الذي حققوه من قبل على المسلمين، فَسَلِم المسلمون مما خوفهم منه الناس، ورزقهم الله من فضله، وطمأنهم أنهم قد اتبعوا رضوان الله وفعلوا الصواب وما يرضي الله. يبقى أن نتوقف عند قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آل عمران 173. حيث لم يقل أنهم توكلوا على الله فحسب، بل هم قالوا بلسانهم عبارة التوكل على الله، أي نطقوا بها ولاذوا بها يقولونها المرة تلو الأخرى، حتى فرج الله همهم ونجاهم فلم يمسسهم سوء. وأنا لي تجربة شخصية حيث تعرضت لموقف محرج جداً مالياً كان بسبب إصراري على شيء استخرت الله فيه المرات الكثيرة فألهمني أن أفعل ما فعلت، وإذا بي في موقف صعب، فتذكرت هذه الآيات وصرت أردد: حسبي الله ونعم الوكيل، ليلي ونهاري كلما كنت لا أقوم بعملي الذي لا بد لي من القيام به، واستمر الحال عدة شهور قلت فيها حسبي الله ونعم الوكيل ملايين المرات، ومن يومها يسر الله لي أموري فخرجت من الموقف المحرج وأنا مرتاح، وبدأ فضل الله يأتيني، وفي كل شيء يُقَدِّر الله لي أحسن الاحتمالات، ويهديني إلى أصح القرارات وهذا كله بفضل حسبي الله ونعم الوكيل. لذا أدعو جميع السوريين الذين يشعرون بالقلق مثلي على مستقبل سورية أن يقولوا "حسبنا الله ونعم الوكيل" ويجتهدوا في قولها المرات التي لا تحصى، ولا بد أن يهديهم الله إلى الصواب ويعطيهم من فضله ويكتب لهم العافية مما يخشونه. إننا في ارتباك وتشوش، وكثير منا يطلب عن حسن نية ما فيه الشر لنا، ولا أمل لنا إلا في الله والتوكل عليه، فلنجتهد في ذلك ولن نخسر شيئاً، فقولة حسبنا الله ونعم الوكيل ذِكْر يكتب لنا أجره، وحصن نلجأ إليه واثقين من حفظ الله لنا. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : {كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل} رواه البخاري. وكانت مكافأة ربنا لإبراهيم الذي توكل عليه في ذلك الموقف الرهيب: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } الأنبياء69. ثم هنالك الاستخارة التي يصلي فيها المؤمن ركعتين لله تعالى وبعدهما يدعو الله أن يختار له الخير في أمر يريده لكنه يخشى أن لا يكون خيراً له، فلنستخر الله كلنا كل يوم حتى تنفرج كربتنا، نسأله إن كانت مقاومة النظام بالسلاح بأيدي المنشقين والمتطوعين معهم خيراً لنا، أن يكتبها لنا وييسرها لنا، وإن كانت شراً لنا، أن يصرفها عنا ويصرفنا عنها، وأن يكتب لنا الخير حيث كان، وإليكم الدعاء مطبقاً على حالتنا لمن لا يحفظه اكتبوه على ورقة وادعوا به في استخاراتكم المتكررة: اللهم إننا نستخيرك بعلمك ونستقدرك بقدرتك ونسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا نقدر وتعلم ولا نعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (وهو إسقاط النظام السوري بقوة السلاح) خير لنا في ديننا ومعاشنا وعاقبة أمرنا وفي عاجل أمرنا وآجله فاقدره لنا ويسره لنا وبارك لنا فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لنا في ديننا ومعاشنا وعاقبة أمرنا وفي عاجل أمرنا وآجله فاصرفه عنا واصرفنا عنه واقدر لنا الخير حيث كان ثم رَضِّنا به ولا حول ولا قوة إلا بالله. أو الاستخارة على المحافظة على الثورة سلمية مئة بالمئة، فنقول: اللهم إننا نستخيرك بعلمك ونستقدرك بقدرتك ونسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا نقدر وتعلم ولا نعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (وهو إبقاء ثورتنا سلمية مهما صار حتى يسقط النظام) خير لنا في ديننا ومعاشنا وعاقبة أمرنا وفي عاجل أمرنا وآجله فاقدره لنا ويسره لنا وبارك لنا فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لنا في ديننا ومعاشنا وعاقبة أمرنا وفي عاجل أمرنا وآجله فاصرفه عنا واصرفنا عنه واقدر لنا الخير حيث كان ثم رضنا به ولا حول ولا قوة إلا بالله. وتكرار الاستخارة مرات ومرات خير وأدعى للاستجابة، فقد روى ابن السني في أعمال اليوم والليلة حديثاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول فيه النبي --صلى الله عليه وسلم--: {يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه}. لذا من شاء فليكرر الاستخارة سبع مرات متتاليات في نصف ساعة ثم ينظر ما يحس به من ارتياح إلى عسكرة الثورة ودعم الجيش الحر أو إلى المحافظة على سلميتها التامة حتى النهاية. ويبقى التساؤل بخصوص العسكريين الذين ينشقون عن الجيش السوري كل يوم ويتحولون إلى جيش حر يهاجم الجيش النظامي ويتحارب معه حرباً غير متكافئة، فتتم في الغالب إبادة المنشقين دون رحمة، ما الأسلوب الأمثل لهؤلاء؟ ليس كل الجيش السوري تعرض إلى موقف أُمِرَ فيه بإطلاق النار على المتظاهرين والمدنيين، وليس كل من انشق مر بهذه التجربة وإن كان ذلك هو المبرر المعلن للانشقاق، فهل هناك داع للتعجل بالانشقاق؟ وهل قتال المنشقين لإخوانهم الذين لم ينشقوا صواب؟ وهل هو من قبيل الدفاع عن النفس؟ تأملوا هذا الحديث الشريف عن أبي بكرة نفيع بن الحارث -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله --صلى الله عليه وسلم--: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلت يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" متفق عليه. وهنالك زيادة "فقتل أحدهما صاحبه" أخرجها أحمد في مسنده والنسائي في السنن، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الكبرى، وهي زيادة صحيحة، والله أعلم. لكن هنالك حديث يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد). رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. إني أرى والله أعلم أن لا ينشق العسكريون إلا إن تعرضوا شخصياً لأوامر بإطلاق النار على المواطنين، ووقتها يمكنهم إطلاق النار في الهواء، أو الانشقاق والهروب والمشاركة في المقاومة السلمية، ولهم أن يقاوموا إذا هاجمهم الجيش أو الأمن ليعتقلهم أو يقتلهم ظلماً دون ذنب اقترفوه، وعندها يكون موتهم دفاعاً عن النفس، ويكونون شهداء، ولا يشملهم قوله -صلى الله عليه وسلم-: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار}، أما إن هم تحولوا إلى المبادرة بمهاجمة الجيش النظامي أو الأمن واشتبكوا مع إخوانهم السوريين فقد يقعون تحت هذا الوعيد ويكون القاتل والمقتول في النار. ولا مجال لمجادل يريد أن يكفر الذين يقاتلون تحت لواء الجيش النظامي، فحتى لو كان فيهم كفار فإن شرع الله فيه الخير لكل مجتمع يطبقه حتى لو كان كافراً، وقد هددت الدول الغربية أزمة اقتصادية مدمرة لم يخرجوا منها إلا باللجوء إلى تخفيض الفوائد المصرفية بحيث اقتربت من الصفر وضخ الأموال في المجتمع تماماً مثلما يفعل الإسلام في تحريمه للربا وفرضه للزكاة. من كان يريد مساعدة العسكريين المنشقين فليساعدهم على الهروب والاختباء في البراري والجبال لا بين الأهالي، وليمدهم بالمال ليتمكنوا من البقاء، أو ليساعدهم على الخروج من سورية لينجوا بأنفسهم ويفضحوا النظام ويفندوا أكاذيبه. الثورة بحاجة إلى البقاء سلمية وبحاجة إلى إعلام قوي وبحاجة إلى المال لكفاية الأسر المنكوبة. ولسنا في حاجة إلى الأسلحة نقتل بها بعضنا بعضاً. وعلينا الانتباه إلى أن الخيارات أمام الثورة ليست محصورة في إما التسلح والتدخل الخارجي أو محاورة النظام المتوحش الذي لا يحترم عهداً ولا ذمة، فالذين يرفضون التحاور مع القتلة محقون لكن هنالك طريق ثالثة يمكن للثورة أن تمضي فيها وتنتصر بإذن الله. إنها المقاومة السلمية والبعد عن الطائفية والمحافظة على استقلالية الثورة عن أية قوى دولية استعمارية يمكن أن تستخدم الثورة لتحقيق مآربها ومخططاتها. وعلينا الانتباه أن هنالك صراع بين القوى العظمى على سورية كل منها لها أجندة ومخطط خاص تحاول تنفيذه مستغلة الأوضاع التي خلقتها الثورة وتعامل النظام الأحمق معها. فلنحذر أن يدفعونا إلى ما يحقق مآربهم ولا يحقق مصالحنا وأهدافنا في دولة ديمقراطية موحدة لكل السوريين، كما علينا الصبر وعدم الانجرار إلى حيث يريد النظام من تحول الثورة إلى صراع طائفي، فالنظام يستفزنا بأعماله البشعة لتثور فينا حمية جاهلية تجعلنا نتصرف بمنطق رد الفعل وبالتالي يتحكمون في أفعالنا من خلال أفعالهم التي تهدف إلى أشياء لا مصلحة لنا فيها. كما علينا الحذر من فئة من العلويين تحلم بالانفصال وإنشاء دولة علوية، ولا أستبعد أن يكون الشبيحة الذين يرتكبون المجازر بحق النساء والأطفال يعملون لحساب هؤلاء ويتلقون منهم أجورهم لا من النظام نفسه. في مثل هذه الفوضى يكثر اللاعبون ويسعى كل لتحقيق مخططاته، ومن هؤلاء بعض العلويين المتطرفين الانفصاليين بينما أغلب العلويين نزعتهم قومية ووحدوية ولا يفكرون في الانفصال بدولة خاصة بهم. القضية تحتاج إلى الصبر مع التوكل على الله ولا بد أن يكون النصر لنا بأقل الخسائر ودون أن يحقق الطغاة ما يريدون من تقسيم وإقامة دويلات طائفية تكون بالنسبة لهم خيراً من أن يفقدوا كل السلطة التي أدمنوا عليها. ولو كانت الثورة عمل منظمة ثورية خططت للثورة ولها قيادات موثوقة ومتبعة ومسيطرة على الموقف وتستطيع عسكرة الثورة دون الانزلاق إلى الطائفية لربما اختلف الرأي والاجتهاد، لكن تكوينة الشعب السوري وتدخل كل القوى الاستعمارية، وارتجالية الثورة، كل ذلك يجعل تحول الثورة إلى حرب طائفية لا مفر منه في حال عسكرتها. وهنالك بين السوريين أناس بلا ضمير يرتكبون أية جريمة من أجل إشعال الفتنة الطائفية التي يكون فيها لهم المجال ليصولوا ويجولوا، فلنحذر ولنصبر مهما كانت جرائمهم فظيعة وبشعة، فقتلانا شهداء في جنة الخلد والنصر سيكون لنا ولن نقع في الحفرة التي يعدونها لنا إن شاء الله. النظام يخشى من التدخل الدولي كما حدث في ليبيا وترعبه الانشقاقات في الجيش لكنه يريد للثورة أن تحمل السلاح وتتحول إلى صراع طائفي، لذا تلتقي رغباته مع الرغبة الإسرائيلية والأمريكية التي تحلم بتقسيم بلادنا، وعلينا أن لا نساعدهم في ذلك، بل بالصبر والتزام السلمية نفوت عليهم الفرصة ونحبط مخططاتهم ومؤامراتهم ونحقق أحلامنا نحن في دولة يسعد فيها أولادنا وينعمون بالحرية والكرامة والمساواة. علينا أن نسعى إلى إسقاط النظام لا إلى إسقاط الدولة في سورية وتحول البلاد إلى فوضى مثل الصومال والعراق، وعلينا أن نكون واقعيين ونرضى بحلول وسط إن كانت تجنب بلدنا الحرب الأهلية والتقسيم حتى لو لم تحقق لنا كل أحلامنا، فالزمن قادم ونستطيع الاستمرار في الجهاد السلمي طالما كسرنا حاجز الخوف إلى أن تتحقق كل أحلامنا إن شاء الله. الأتراك من منطلق الحب لنا ومن منطلق التجاوب مع الرغبة الفرنسية التي اضطروا للخضوع لها ينصحون السوريين بقبول حل مماثل للحل اليمني، لكن حالنا مختلف عن حال اليمن، دون أن يعني ذلك استحالة وجود سيناريو ملائم لسورية لا يكون استنساخاً للسيناريو اليمني أو الليبي أو العراقي، سيناريو يحقق لنا حداً أدنى مما نطمح إليه ويجنبنا السيناريو اللبناني الذي ذاق اللبنانيون مرارته في حربهم الأهلية بين عامي 1975 و1990. ولنحذر من وهم أن الجهاد المسلح ضد النظام سيحررنا منه وكذلك من الفتاوى الدينية التي تدعي أن دعم الجيش الحر بالمال والسلاح أو التطوع والقتال معه ضد النظام فريضة على السوريين هذه الأيام. تأملوا تاريخ الثورات المسلحة وكم طالت وكثرت ضحاياها قبل أن ينتصر بعضها وينهزم أكثرها، كما إن الثورات المسلحة قلما تأتي بالديمقراطية لمجتمعاتها، وأكثر التحولات إلى الديمقراطية كانت ثمرة ثورات سلمية {كلا، لا تطعه واسجد واقترب} ويبقى إخواننا الأكراد وغالبيتهم من المسلمين السنة لكنهم تعرضوا للظلم على أساس قومي ولهم مطالبهم، ولا بد لنا أن نكون مرنين معهم كي ينضموا بكل ثقلهم إلى الثورة، ولا مانع من فيدرالية تقوم بالتفاهم والمحبة والتراضي ولا تكون ثمرة حرب أهلية تقتل الناس وتقتل الحب بينهم. كثير من دول العالم مكونة من اتحادات فيدرالية وأمورها طيبة، لذا علينا بالحكمة والعدل وإن كنا نرفض رفضاً قاطعاً أية محاولة لتقسيم سورية، لكن للوحدة أشكال والفيدرالية إحداها. الأكراد سوريون ولهم لغتهم وقوميتهم ومن حقهم أن يتمتعوا بحقوقهم الثقافية في إطار سورية موحدة تكون لكل السوريين.
جورج سمعان
حامد الخليفة
عباس ضاهر
وحيد عبد المجيد
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة