..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

خواطر في زمن المحنة (10) فقه الابتلاء

ماجد الدرويش

٦ مايو ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 5379

خواطر في زمن المحنة (10) فقه الابتلاء
8.jpeg

شـــــارك المادة

في كل يوم يبرق فجره على بلاد الشام، تطالعنا الأحوال التي يعاني منها أهلنا في سوريا وفي فلسطين، وتفجعنا صنوف التعذيب التي يندى لها جبين التاريخ قديماً وحديثاً، ونرى صوراً عن القتل والوحشية التي لا توفر صغيراً ولا كبيراً، رجلاً أو امرأة، لأن الهدف هو قتل كل ما يتحرك من أجل زرع الرعب في قلوب الناس.


هذا الحال يصيب الإنسان، أي إنسان، بحالة من السخط على هؤلاء المجرمين الذين لا يرقبون في الناس إلا ولا ذمة، كما يصيبه بسخط أكبر على هذا المجتمع المسمى دولياً، الذي يستمتع بما يحدث للشعبين: السوري والفلسطيني.
لن أسترسل في تصوير الواقع، فهو لا يحتاج إلى أن يصوره أحد، فالمشاهد التي تتناقل عبر وسائل الإعلام، لم تترك مجالاً لقلم مهما كان أديباً، ولا لمصور مهما كان بارعاً، ففي زمن تلفزيون الواقع(REAL TV) أحداث سوريا أولاً، ثم فلسطين ثانياً، تحصد أعلى الجوائز، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وبالرغم من ضخامة الألم الذي يعتصر القلوب، والأسى الذي يذهب بالمهج، واللوعة التي ترافق تشييع كل حبة قلب غالية، إلا أنني ألمح في هذه المحنة ألواناً من المنح ليس أقلها الجنة ورضوان الله - سبحانه -.
فالله - عز وجل - يقول: {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة}.
فإذا كان الموت أمراً لا مفر منه، فهنيئاً به على أحب صورة يختار الله - تعالى - لها من يشاء: {ويتخذ منكم شهداء}.
إلا أنه بالرغم من كل هذه الآلام فإن منحاً ربانية تلوح من هذه المِحنِ تجعل الإنسان في غاية الاطمئنان.
المِنَحُ الرَّبانية في المِحَنِ الشامية:
ومن المنح الربانية التي تلوح دائماً: اختبار الله - تعالى - لعباده بأنواع المحن، كما قال - سبحانه -: {أحسب أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.
ولا شك بأن الله - تعالى - يعلمهم، لكنه - سبحانه - لا يحاسب الناس على ما في أنفسهم، وإنما يحاسبهم على ما يظهر منهم.
فالبعض ممن ينسب إلى العلم -مثلاً- يظن في نفسه أنه من أعلم أهل الأرض بما يحدُثُ في بلده، فتأتي المواقف لتبين أنه مبيِّض وجوه، ومعينٌ للظالمين على ظلمهم، وهكذا تظهر معادن الناس عند الامتحان: فإما أن يكرم المرء أو يهان.
والحقيقة أن معادن الصدق عند أهل الشام قد ظهرت، وذكرتنا صورُ التعذيب المهولة التي تتوالى صورَ ما قاساه الصحابة الكرام من أهوال في سبيل الله - تعالى -، بل ما قاساه الأنبياء أنفسهم -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم، وما خبر أصحاب الأخدود عنا بغريب.
فمواساةً لأهلنا الأحبة الصابرين على البلاء المستقبلين أفواج البلاء بالدعاء والتضرع؛ أسوق هاتين الصورتين من صور تعذيب المشركين لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم أجمعين. ثم أتبعهما ببشرى.
* الصورة الأولى: تحمل خبّاب بن الأرتّ - رضي الله عنه - الشدائد في سبيل الله - تعالى -:
روى ابن سعد في طبقاته، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: (دَخَلَ خَبَّابٌ بن الْأَرَتَ عَلَى عُمَرَ بِنِ الْخَطَّابِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ وَقَالَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ لَهُ خَبَّابٌ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِلَالٌ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هُوَ بِأَحَقِّ مِنِّي، إِنَّ بِلَالًا كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا أَخَذُونِي وَأَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي، فَمَا اتَّقَيْتُ الْأَرْضَ، أَوْ قَالَ: بَرْدَ الْأَرْضِ إِلَّا بِظَهْرِي، قَالَ: ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِصَ).
فهذه المحن التي تركت آثارها على خباب - رضي الله عنه -، رفعته فقدمته على أهل الأرض في زمنه، ولربما حتى يرث الله الأرض ومن عليها، اللهم إلا الأنبياء والصديقين.
* الصورة الثانية: بيان هول ما قاساه الصحابة من صنوف التعذيب:
روى البيهقي في السنن الكبرى من طريق ابن إسحاق في سيرته، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: (قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: يَا أَبَا عَبَّاسٍ! أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ، وَيُجِيعُونَهُ، وَيُعَطِّشُونَهُ، حَتَّى مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ).
ولأجل صبرهم وتحملهم أكرمهم الله - تعالى -بقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
هاتان صورتان من صور ما لاقاه أسلافنا الكرام من صنوف الأذى في جنب الله - تعالى - تصلح عزاءً لما يصيب الأمة اليوم من أشكال ذلك، والعزاء الأكبر هو في الثقة بأن الله - تعالى - سيكشف الغمة، ويومها سيعرف القاصي والداني، بل وسيعرف الذين سيرفُلون بألوان النعيم، الذي تمهد له هذه الانتفاضات المباركة، بأن الذين امتحنوا في سبيل الله هم، وفي زمن المحنة بالذات، أفضل بكثير من الذين سيرفلون بخيرات الفرَج القادم، ولعل هذا الحديث الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم في ترجمة عثمان بن مظعون –رضي الله عنه- من كتاب الحلية فيها بيان ذلك، وهو البشرى التي قصدت إليها:
* البشرى:
أخرج أبو نعيم الحافظ بسنده عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ دَخَلَ يَوْمًا الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ قَدْ تَخَلَّلَتْ فَرَقَّعَهَا بِقِطْعَةٍ مِنْ فَرْوَةٍ، فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَقَّ أَصْحَابُهُ لِرِقَّتِهِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((كَيْفَ أَنْتُمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَصْعَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمُ الْبُيُوتَ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةَ؟))، قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَصَبْنَا الرَّخَاءَ وَالْعَيْشَ، قَالَ: ((فَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ)).
والحُلَّةُ الثوبان الجديدان يزدان بهما الرجل، ولا تكون حلة إلا من ثوبين جديدين، فهذا إخبار منه - سبحانه - بأنه سيأتي زمان على الناس يكثر فيه المال حتى يلبس الرجل في اليوم الواحد حلتين، ولربما لبس في كل يوم حلتين جديدتين، ثم إن الناس سيرفلون أيضاً بأنواع الطعام لربما إلى حدِّ التخمة، ويتقلبون بأنواع النعيم، إلا أن الذين هيأ الله بهم لأمثال هؤلاء هم خير منهم، على ما كانوا يلاقونه من شظف في العيش، وقلة في اللباس، ونقص في الأموال والأنفس والأولاد، وصدق الله - تعالى - القائل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.
وقد أعجبتني هذه الإضاءة التي أرسلها لي أحد الإخوة الأحبة، وفيها:
أراد إخوة سيدنا يوسف أن يقتلوه فلم يمت!!
ثم أرادوا أن يُمحى أثره فارتفع شأنه!!
ثم بيع ليكون مملوكاً فأصبح ملكاً!!
ثم أرادوا أن يمحو محبته من قلب أبيه فازدادت.
فلا تقلق من تدابير البشر، فإرادة الله فوق إرادة الكل. عندما كان يُوسف في السجن كان الأحسن بشهادتهم؛ {إنا نراك مِن المُحسنين}. لكن الله أخرجَهم قبله، وظلّ هو - رغم كل مميزاته - بعدهم في السجن بضعَ سنين.
الأول خرج ليُصبح خادماً.
والثاني خرج ليُقتَل.
ويوسف انتظر كثيراً! لكنه.. خرج ليصبح عزيز مصر، ليلاقي والديه، وليفرح حد الاكتفاء..
{وجعلنا منهم أَئمة يهدون بأَمرنا لما صبروا}.

المصدر: رابطة العلماء السوريين

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع