..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

ساعة الصفر

مجاهد مأمون ديرانية

١٩ إبريل ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4221

ساعة الصفر
12.jpeg

شـــــارك المادة

ساعة الصفر: مسرحية من خمسة فصول

(1)
يعيش أبو عبدو وأم عبدو في حمص تحت الحصار منذ شهور، وتتساقط على حيّهما بعض القذائف بين وقت وآخر، وهما يتابعان أخبار التحركات العربية والدولية وينتظران الفرج. البيت خالٍ تقريباً من الطعام وليس فيه وَقود للتدفئة منذ بداية الشتاء، وقد اخترقت قذيفةُ دبابة واجهةَ المبنى فتركت ثغرة كبيرة في حائط غرفة المعيشة، يتسرب منها هواء الشتاء البارد برغم محاولات أبي عبدو لإغلاقها ببعض الحشيات وألواح الخشب. أبو عبدو وأم عبدو يتسامران في الغرفة، فما عاد لهما غير السمر بعدما قطع القنّاصة على أبي عبدو الطريقَ إلى "القهوة" في طرف الحي وعلى أم عبدو الطريق إلى "استقبال" أم محمود في الجهة الثانية من الشارع. أحياناً يكون للقناصة بعض الفوائد.
أم عبدو: سمعنا قبل شهور طويلة أن العرب لن يسكتوا عن قتل المدنيين، لماذا لم يصنعوا شيئاً بعد؟
أبو عبدو: الله العليم يا أم عبدو، الغائب عذره معه.


- جرب أن تتصل بهم.
- ………
- مَن ردّ على الاتصال؟
- لا أحد، أسمع رسالة مسجّلة تقول: "إن جميع الموظفين مشغولون الآن، جرب الاتصال في وقت آخر".
-بعد شهر-
(ما زال القنّاص مكانه، ومرة أخرى يضطر أبو عبدو وأم عبدو إلى السهر والسمر)
أم عبدو: لقد زاد القصف على الحيّ مؤخراً حتى لَيكاد لا يتوقف منذ شهر، ولا خبر من أحد حتى الآن. لماذا لا تجرب الاتصال بالعرب مرة أخرى؟
- ………
- من ردّ على الاتصال؟
- لا يوجد رد، فقط رسالة مسجّلة تقول: "إن الرقم المطلوب غير موجود في الخدمة مؤقتاً".
-بعد ستة أشهر-
(التفصيل السابق نفسه)
- القصف لم يتوقف منذ ستة أشهر ولا جديد. جرب أن تتصل مرة أخرى.
- ………
- من ردّ على الاتصال؟
- لا يوجد أي رد. فقط رسالة مسجلة تقول: "تأكد من الرقم الصحيح، وشكراً".
أم عبدو: أين ضاع العرب؟ جرب البحث عن طريق الأستاذ غوغل.
أبو عبدو: طيب؛ "ا ل ع ر ب"؟
- ماذا وجدت؟
- يقول غوغل: لا توجد نتائج مطابقة!
(2)
القصف متواصل منذ شهور، اعتاد أبو عبدو على الأصوات وصار يستيقظ من نومه فَزِعاً إذا توقف القصف! في هذه الليلة خطر بباله خاطر، أطلّ برأسه من النافذة الخلفية فشاهد الأطلال تغطي ربع المدينة من جهة الجنوب الغربي. فكر بأن العرب تأخروا في الوصول كثيراً، وقرر أن يحاول استعجال النجدة.
- ألو، سيد عربي؟
- أنا نبيل العربي، تفضل.
- معك أبو عبدو من حمص. أستاذ نبيل، ربع حمص صارت أنقاضاً وخرائب، متى ستأتون؟
- أرجو قبول اعتذاري أخي أبا عبدو، الموضوع صار من اختصاص الأمم المتحدة. جرب أن تتصل بالمستر بان كي مون، (بَلْكي بيمون).
- معك الرقم؟
سجّل: ………
(بما أن الاتصالات في حمص صعبة جداً وتنقطع في معظم الأيام فقد مضت أسابيع قبل أن يتمكن أبو عبدو من الاتصال بالسيد بان كي مون)
- ألو، مستر مون؟
- أنا بان كي مون، تفضل.
- معك أبو عبدو من حمص. مستر مون، نصف حمص صارت أنقاضاً وخرائب، متى ستأتون؟
- أرجو قبول اعتذاري مستر أبو أبْدو، الموضوع صار من اختصاص المستر كوفي أنان، جرب أن تتصل به لعله يجد لكم حلاً قبل فوات الأوان.
- معك الرقم؟
سجّل: ………
(نفس التفصيل السابق. بعد عدة أسابيع أخرى: )
- ألو، سيد كوفي؟
- لا، خطأ، معك الحلاق، الكوفي شوب هو المحل المجاور.
- لا أريد الكوفي شوب، أريد كوفي عنان.
- آسف، الرقم خطأ.
أبو عبدو: يبدو أنني نسيت إدخال الرمز الدولي، سأجرب مرة أخرى.
………….
- ألو، مستر عنان؟
- أنا كوفي أنان، تفضل.
- معك أبو عبدو من حمص. مستر أنان، ثلاثة أرباع حمص صارت أنقاضاً وخرائب، متى ستأتون؟
- أرجو قبول اعتذاري مستر أبو أبْدو، الموضوع يخضع حالياً للدراسة الدقيقة وسوف نضع الخطط المناسبة لإنقاذكم. قلتَ لي كم من حمص صار أنقاضاً وخرائب؟
- ثلاثة أرباعها مستر أنان.
- إذن ما يزال فيها الربع؟ عظيم، هذا كاف تماماً، لا تحمل أي همّ، لا بدّ أن نصل قبل أن تختفي حمص من الوجود.
(3)
- ألو، القصر الجمهوري؟ أعطني سيادة الرئيس القائد لو سمحت.
- معذرة، إنه مشغول بصيد البط. مَن المتحدث؟
- أنا قائد العمليات الميدانية في حمص، يجب أن أتحدث معه بسرعة لأمر طارئ.
- انتظر على الخط.
-بعد قليل-
- ألو، نعم؟
- أعطني سيادة الرئيس.
- أنا الرئيث.
- أريد الرئيس لو سمحت.
- قلت لك إنني أنا الرئيث يا قرد.
- الرئيث؟
- لا، الرئيث.
- آه، الرئيس؟
- نعم، الرئيث يا حيوان. ماذا تريد؟
- ثيدي… آسف، سيدي، المراقبون على أبواب حمص، ماذا نفعل بالدبابات؟
- طول عمركم بهائم، حتى أهون المشكلات لا تستطيعون معالجتها. إذا وصل المراقبون إلى المدينة فأخفوا الدبابات تحت الشجر أو وراء أعمدة الكهرباء حتى لا يروها.
- حاضر ثيدي… عفواً، حاضر سيدي، لا أدري كيف كنا سنتدبر أمورنا لولا ما تجود به علينا من ومضات العبقرية والذكاء.
(4)
-في وقت ما بعد ذلك-
أم عبدو: كأني سمعت صوت رنّة من هاتفك المحمول؟
أبو عبدو: يبدو أنها رسالة "إس إم إس"، يا فتّاح يا عليم.
……………
أم عبدو: ماذا تقول الرسالة؟
- ساعة الصفر، ساعة الصفر يا أم عبدو! هيا بسرعة، نادي الأولاد وسأبلّغ جارنا أبا سعدو.
أبو عبدو وأم عبدو وعبدو وعابدة كانوا أربعة، صاروا مع أبي سعدو وأم سعدو وسعدو وسعدية ثمانية. خرجوا من الشقتين المتقابلتين ونزلوا الدرج، وعندما مروا بالطابق الأدنى قرعوا جرسَي البابين المتقابلين، فانضمّ إليهم أبو حسن وأم حسن وحسن وحسنة، وأبو حسين وأم حسين وحسين وحسنية، فصاروا ستة عشر. استمرّوا بالنزول على الأدراج، وعندما مروا بالطابقين الأسفلين قرعوا أبواب البيوت فخرج ساكنوها وانضموا إليهم، فمَا وصلوا إلى الشارع إلا وهم ثلاثون شخصاً.
جيرانهم في العمارة المقابلة كانوا قد خرجوا وانضموا إليهم فبلغ المجموع ستين، ومشوا جميعاً وآخَرون ينضمون إليهم من بقية العمارات، فما وصلوا إلى رأس الشارع إلا وهم ألف. نظروا عن يمينهم فوجدوا آلافاً يتدفقون، ونظروا عن يسارهم فإذا آلاف يتدفقون، فساروا جميعاً وقد بلغت عدتهم عشرة آلاف إلى آخر الحي، فإذا بسائر أحياء المدينة تقذف من بطونها أهليها فيتقاطرون عشرات ألوف من وراء عشرات ألوف، فلمّا بلغوا ظاهر المدينة كانوا قد أوفوا على المليون.
خرج من حمص أهل حمص، ومن حماة أهل حماة، وخرج أهل حلب من حلب وأهل اللاذقية وإدلب ودرعا ودير الزور والقامشلي، وسارت الجموع ملايين تقطر ملايين في قطار طوله عشرون مليوناً من الثوار، فمَن رأى أوله ظن أنه ليس له آخر ومن رأى آخره ظن أنه ليس له أول، وخرج من بيوتهم أهلُ دمشق فأغلقوا الشوارع وأغرقوا الميادين، ولم يبقَ في بيته في تلك الليلة إلا مريض أو خائن أو جبان. سأل سائل: إلى أين المسير؟ رد أحدهم: القصر الجمهوري.
طارت الكلمة في الهواء: القصر، القصر… التقطها الملايين، فتدفقت الجموع على الربوة.
في جُحْر من جحور القصر عثروا على بشار. لمّا رآهم مقبلين عليه طار لُبّه من الفزع وراح يهتف بجنون: أنا الرئيث، أنا الرئيث، أنا الأثد، أنا الأثد.
فصاحت الجموع هادرة: قد علمنا، وأنت من نريد.
صاح من قلب مجزوع مفزوع: يا ويلكم، أنا القائد إلى الأبد.
صاحت الجموع هادرة: بل أنت الملعون إلى الأبد، المجرم بشار ابن المجرم حافظ الأسد، لعنة الله على الوالد وما ولد.
نَحَبَ بشار نحيب الأطفال، وقال بعض من حضر الواقعة إن آخر ما سُمع منه كان صراخاً هستيرياً لم تَبِنْ فيه غيرُ هذه الكلمات: كله إلا الخازوق، كله إلا الخازوق! وراح يكررها مثل المجانين.
لم تصبر الجموع الغاضبة طويلاً؛ ساقوه إلى أقرب شجرة، واحدة من حَوْر دمشق الخالدات، ومن رقبته علّقوه. تدلّى الجسد الطويل من العنق وراح يهتزّ يميناً ويساراً مثل البندول، نظر عبدو ملياً ثم مال على صديقه سعدو وقال: ألا ترى أن العنق صار أطول من أي وقت مضى؟
(5)
-بعد سنة-
عبدو وسعدو يجلسان متجاورَين في غرفة الدرس، والمدرّس يشرح درس التاريخ:
والآن يا أبنائي سأقصّ عليكم قصة الثورة. لقد استولى رجل غاصب اسمه حافظ الأسد على سوريا، فأذلّ كرام أهلها زماناً وسامَهَم خطةَ القهر والهوان، فقتل منهم من قتل وسجن من سجن فبلغوا مئة ألف، ونفى عن البلاد مئات ألوف غيرهم، واستباح البلاد وأباحها لعصابته وأقاربه الأقربين. ثم مات فخلفه ابنه بشار، ورث البلاد وراثةً كما يرث الابن القطعةَ من مال أبيه، فلما تولى عليهم الرئاسة وعدهم بالإصلاح، ولكنه كان نبتةً سيئة من زرعة سيئة، فما لبث أن أخلف الوعد وسار على سنّة أبيه، فما صبر عليه أهل سوريا الأبطال إلا عشر سنين، ثم قاموا عليه غاضبين ثائرين، فحاربهم حرب الموت، وبلغ في القمع والإجرام ما لم يبلغه أبوه السفاح الكبير، وبالغ في التقتيل والتعذيب حتى لم يدع بيتاً في طول سوريا وعرضها إلا ونكبه بشهيد أو فقيد، وحاصر المدن واجتاحها بالدبابات والطيّارات وقصفها بالمدافع والصواريخ… كل ذلك وأهل سوريا ثابتون ثبات الجبال، بل إن الجبال لتهزها الزلازل وهم لا يهتزّون. وبلغ القتل غايته فاستغاث السوريون بجيرانهم العرب، فما أنجدوهم بغير الكلام، ثم استنجدوا بأهل الأرض من شرق وغرب، فما وجدوا غير رَجْع الصدى، فثَمّ علموا أنهم إنما يخاطبون عوالم صَمّاء عمياء، فأيسوا من الناس واسترجعوا ثقتهم بالله كما بدؤوا أول مرة، وقرروا أنه لا ينجّيهم من بلائهم إلا أنفسُهم، فتوافقوا على خطة للنصر وحددوا ساعة سمّوها "ساعة الصفر". فلما أزفت الساعة قاموا قَوْمة رجل واحد وتدفقوا من كل حدب وصوب، فملأت جموعُهم الطرق وأغرقت الساحات، ثم زحفوا على الطاغية في قصره فالفَوه في جحر حقير، فاستلّوه وحاكموه ونفّذوا فيه القصاص. افتحوا -يا أبنائي- كتاب التاريخ وانظروا: ها هي صورته وهو في زينته وملئه، ظن أن لا يقدر عليه الله وأنه سيخلد خلود الأبد، فأخذه الله أخذ الفجأة: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}، وها هو ترونه في الصورة الأخرى معلّقاً من عنقه على حورة من حور دمشق.
فتح عبدو كتاب التاريخ ونظر إلى الصورة الأولى، وفكر: إنه يضحك ضحكته الشهيرة البلهاء. أهذه صورة رئيس دولة عظيمة في وزن سوريا؟ لا ردّه الله. ثم انتقل ببصره إلى الصورة الأخرى. تأمّلَها هنيهة قبل أن يميل على رفيقه سعدو ويهمس في أذنه بصوت خفيض: لا زلت أرى أن رقبته تبدو أطول من المعتاد.

المصدر: الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع