مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3427
شـــــارك المادة
أما رأيتم إلى حمص، أرض العجائب والبطولات والمَكرُمات؟ لقد تذكرَت الأمةُ فيها مجدَها التليد واستعادت عزّها الفقيد، لقد أذهل أهلُها الأكرمون الدنيا بثباتهم في الميدان وصبرهم على العدوان، وانتصروا انتصارات ذكّرتنا بانتصار بدر في صدر الإسلام. ولكنّ الدنيا فيها ارتفاع وانحدار وفي الأيام إقبال وإدبار، وكما أن الحروب فيها ظفر وانتصار فإن الحروب فيها هزيمة وانكسار، وكما رأينا في حمص بدراً وانتصارَ بدر فقد رأينا فيها أُحُداً وهزيمةَ أحد. فهل ترون أن نَطرب للنصر ونُعرض عن الهزيمة، أم أن من واجبنا أن نبتهج بالنصر ونشكر عليه الله، وأن نتدبّر الهزيمة لنستخرج منها العبرة ونتّقي عَوْدَ الكرّة؟
لو كان الهمُّ همَّ حمص وحدها لكفى به هَمّاً، ولكنه ليس ذلك فحسب، بل هو هَمّ سوريا كلها وهَمّ الثورة؛ إنها إن تُهزَم هذه الثورة -لا قدّر الله- فلن يرتفع في سماء سوريا صوت يمجّد الله في خمسين سنة، ولسوف تغطّي سماءَ سوريا سحابةٌ قاتمة سوداء من الظلم والقهر لا ينفد منها ضوء الشمس، وسوف يُداس شعب سوريا بالنعال والبساطير، وسيتحول جيل كامل من السوريين إلى قِيان ومماليك في حظائر عصابة الأسد. لكيلا يحدث ذلك كله لا بدّ أن نتّقي الهزيمة بأي سبيل، لا بدّ أن ندرس كبواتنا ونستخلص منها العِبَر. * * * في بابا عمرو ثبت المقاتلون ثباتاً عجيباً وقاوموا جحافل العدوان الهولاكية مقاومة هائلة، ولم يكن خروجهم من الحيّ هزيمة -بإذن الله-، فإنهم قد رتّبوا انسحابهم ترتيباً حاذقاً ونجحوا في إخلاء أكثر السكان قبل الانسحاب، فلم يبقَ إلا الذين أصرّوا على البقاء أو حال اشتداد القصف دون خروجهم. أمّا المجاهدون في حمص القديمة والخالدية والقرابيص وجورة الشياح فإنهم ما يزالون صامدين صموداً أسطورياً ولم يتزحزحوا عن مواقعهم رغم القصف الوحشي والهجوم الشرس الذي تشنه عليهم كتائب الأسد منذ أربعة أسابيع، وقد اتخذوا قرارهم: لا ننسحب ما بقيت معنا طلقة. أمَا إن بابا عمرو والخالدية والقرابيص وجورة الشياح وحمص القديمة لتذكّرنا ببدر وأهل بدر، فإن وراء ثباتها وصبرها رجالاً وهبوا أنفسهم لله وجادوا بأرواحهم في سبيله، أسأل الله الرحمة لموتاهم والثبات لمن بقي منهم في الأحياء. لكنْ لم تكن كل معارك حمص صموداً وثباتاً وانتصارات؛ لقد رأينا فيها أيضاً سقوطاً مروّعاً لبعض الأحياء: كرم الزيتون وجب الجندلي وعشيرة والرفاعي والعدوية والمريجة، وأخيراً السقوط المحزن لحي دير بعلبة قبل عشرة أيام. ولم تسقط تلك الأحياء لأن المدافعين كانوا قِلّة ولا لأن السلاح كان معدوماً، فقد كانوا كثيرين والسلاحُ في أيديهم كثير، ولكنهم هُزِموا كما هُزم صدر الأمة في أُحُد. بعد صمود بابا عمرو الأسطوري كان المتوقع أن تضرب تلك الأحياء رقماً قياسياً جديداً في الصمود، فهي أحياء متراصّة يحمي بعضُها ظهرَ بعض والسلاحُ فيها وفير كثير. فماذا الذي حصل؟ لماذا انهارت؟ لم ينفد السلاح من أيدي المقاتلين، ولكن الهجوم الشرس والقصف العنيف تسبب في حالة من الذعر والارتباك، فألقى عدد كبير من المقاتلين السلاحَ أو انسحبوا به "انسحاباً كَيْفياً". في المصطلح العسكري يعني هذا الوصف أن الانسحاب كان عشوائياً وأن الجيش ترك المواقع القتالية بلا تخطيط، وهذا هو أسوأ أنواع الانسحاب وأشدّها ضرراً على الجماعة المسلحة المقاتلة وعلى الجماعة المدنية الحاضنة، وهذا ما كان. لقد أخطأ المقاتلون جملة أخطاء فانسحبوا وكشفوا ظهورهم، فدفع سكان الأحياء المنكوبة الثمن غالياً، ذبحاً واغتصاباً وجرائم يشيب من هولها الوِلدان. في أعقاب السقوط الكارثيّ لدير بعلبة قال لي أحد الإخوة الناشطين في الميدان: لم يهزمنا جيش الأسد ولم نُهزَم من قلة عدد أو سلاح، لقد هُزمنا بأخطائنا وتفرّقنا، نحن المَلومون. لا، لن نلومكم يا أيها الأبطال ولن نعتب عليكم، فإن العتاب واللوم لم يكونا يوماً من أخلاق النبلاء، لذلك لم يؤثَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأحد قطّ لِمَ فعلت كذا أو لِمَ لمْ تفعل كذا (كما روى خادمه الذي لزمه سنوات طوال، أنس -رضي الله عنه-). أمّا النصح والرأي فإنه حق كل مسلم على كل مسلم، وهو على من علم فريضةٌ في حق من لم يعلم، وإنما أهلك الأقوامَ الأولى أنهم كانوا لا يتناصحون ولا يتآمرون بمعروف ولا يتناهَون عن منكر. لن نلومكم ولكنّا لن نترك الكارثة بلا دراسة واستخلاص للدروس والعِبَر. ليس الخطأ جريمة، ولكن رفض الاستفادة من التجربة المُرّة ورفض تعلم الصواب هو الجريمة. * * * عاد المسلمون من أُحُد مثقَلين بالجراح والآلام. بالتعبير الحديث نقول إنهم كانوا في حالة نفسية سيئة بسبب ما أصابهم من هزيمة وما فقدوا في المعركة من شهداء. ومتى كانت الكارثة؟ إنها لم تأتِ في عقب مئة نصر مظفّر، إنما هو النصر اليتيم في بدر بعد خمس عشرة سنة من القهر والمعاناة والضعف والانكسار، وهذا ما جعل الهزيمة أشدّ وقعاً وأعمق أثراً، ولو أنها جاءت بعد سلسلة انتصارات لهان الأمر وتضاءل المُصاب. نعم، لقد عادوا من المعركة مكروبين مهزومين، وربما كان من المناسب أن يتلقاهم المتلقّي على أبواب المدينة بالابتسامات والتعزيات، يقول لهم: لا عليكم أيها الأصحاب، لقد بذلتم الجهد وأخطأتم الاجتهاد ففاز بعضكم بأجر الجهاد ونال آخرون شرف الاستشهاد، لا عتب عليكم ولا تثريب. لو كنت هناك لصنعت ذلك، ولكن الله العليم الحكيم أعلمُ بما يصلح لعباده الذين اصطفاهم لحمل الرسالة في تلك الأيام العصيبة، ولو أنه داوى جراحهم بالمجاملة والعزاء لتاهوا عن إدراك الخطأ الذي ارتكبوه ولذهبت تضحياتهم سُدىً ولم ينتفعوا من الدرس الأليم. فماذا صنع بهم؟ لم يجاملهم أقلّ قدر من المجاملة، لم يمسح على رؤوسهم ولا أجّلَ حسابهم حتى تبرأ جراحهم، بل ألقى على الجرح الملحَ وعجّل بالحساب، فقال لهم: لقد أخطأتم خطيئات كبيرات ودفعتم الثمن. عادوا مُثقَلين بالهزيمة فنفح في قلوبهم العزيمة ونهاهم عن العجز والهوان، قال: {ولا تَهِنوا ولا تحزنوا}. ثم بيّنَ لهم حكمة الهزيمة فقال لهم: {وما أصابكم يومَ التقى الجمعان فبإذن الله}. لماذا يا رب؟ قال: {وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم}. وقال: {ليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذَ منكم شهداء}، وقال: {وليمحّص الله الذين آمنوا}، وقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟}. أمّا سبب الهزيمة فهو الأهم، فإنهم يجب أن يعرفوا الخطأ الذي ارتكبوه حتى يتحامَوه من بعدُ فلا يقعوا في مثله: {أوَلمّا أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثلَيها} يشير إلى بدر، وقد قتلوا فيها من المشركين سبعين وأسروا سبعين، {قلتم: أنّى هذا؟}. يسألون: ما سبب هزيمتنا وما سبب مصيبتا؟ فيأتيهم الجواب القاطع الحاسم: {قل هو من عند أنفسكم}. لقد أذهلتهم الهزيمة عن أنفسهم فراح بعضهم يسأل بعضاً: من أين أصابنا هذا وقد وعدَنا الله بالنصر؟ فجاءهم الردّ من السماء: {ولقد صَدَقكم الله وعده}. كيف يا رب؟ {إذْ تَحُسّونهم بإذنه}. الحَسّ (بالفتح) هو القتل، أي تقتلونهم بإذن الله؛ ذلك أنهم كانوا قد أثخنوا في المشركين وظهروا عليهم، فقتلوا صاحبَ لوائهم ثم انتشروا وسطهم يقتلون منهم ذات اليمين وذات الشمال، وحاول خيّالةُ المشركين الهجومَ ثلاث مرات فردّهم المسلمون برشق السهام، وتعاقب على لواء المشركين سبعة والمسلمون يقتلونهم واحداً بعد واحد. فماذا حدث إذن؟ ولماذا انقلب النصر هزيمة؟ هنا جوهر المسألة وبيت القصيد؛ اسمعوا يا عباد الله: {ولقد صَدَقكم الله وعده، إذا تَحُسّونهم بإذنه، حتى إذا فَشِلتم وتنازعتم في الأمر وعَصَيتم من بعدِ ما أراكم ما تحبّون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليَكم}. هذه هي أسباب الهزيمة يا أيها المؤمنون: "فشلتم"، أي جبنتم وضَعُفتم، "وتنازعتم في الأمر"، اختلفتم فيما بينكم، "وعصيتم"، أي خالفتم أمر نبيكم - عليه الصلاة والسلام -. * * * هذه هي أسباب الهزيمة فاجتنبوها يَصْدقكم وينصركم الله: (أ) السبب الأول هو الجبن. إن الجُبن قتّال، فإياكم أن تقبلوا بينكم جباناً؛ إنه يقتل نفسه ويقتل غيره. إنّ جبنه يُخرجه من عقله فيرمي سلاحه ويترك موقعه فيكشف ظهركم ويعرّضكم إلى المَقْتلة، وكثيراً ما يُقتَل هو نفسه مُدْبراً غيرَ مقبل، أعوذ بالله من الفرار والإدبار. ولكن ألا يمكن أن يتسلل الخوف إلى قلب المجاهد إذا اشتدّ الرمي وحمي الوطيس؟ بلى، يمكن، ولكنْ لاحظوا الكلمة: "يتسلل الخوف"، ذلك أن المجاهد يتميز بالشجاعة والاتكال على الله، لذلك لا يستطيع الخوف أن يدخل إلى قلبه من الباب فيتسلل تسللاً خفياً من الشبّاك، فإذا وجد منه في قلبه شيئاً ذكر الله فسكن قلبُه وذهب خوفه: {إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه، فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين}. (ب) السبب الثاني هو التنازع، وهو الخلاف وليس الاختلاف، فلا بدّ أن يختلف الناس، بل إن الاختلاف سنّة من سنن الخلق، ولعل بعض المجاهدين يرون اعتماد سياسة الهجوم ويختار آخرون الدفاع، أو يميل فريق إلى تركيز القوة في جبهة ويميل فريق آخر لنقلها إلى جبهة غيرها. كل هذا من الاختلاف المقبول، لكنه يجب أن ينتهي -بالحوار العاقل- إلى اتفاق، أما إذا انتهى إلى خلاف وتنازع وتفرّق فإنها الكارثة التي تمزّق الصف وتُذهب القوة: {ولا تَنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم}. (ج) السبب الثالث هو المعصية. صحيح أن الآية أشارت إلى معصية محددة، وهي معصية الرماة الذين أُمروا بالثبات على الجبل فتركوا مواقعهم وانحدروا عنه يريدون الظفر بالغنائم، ولكن "المعصية" لفظة عامة تشمل كل معصية لله ولرسوله –صلى الله عليه وسلم-، فكيف ينصر الله العُصاة؟ بل إن من سوء الأدب مع الله أن يُعصى بالعين أو باليد أو بالقلب ثم ينطق اللسان بطلب النصر فيقول العاصي: اللهم انصرني يا رب. وقد ينصر الله العصاة، ولكنه يغلب أن يكون نصرَ استدراج، وليس هذا نصراً للمؤمن ولو بدا كذلك لأهل الأرض أجمعين. وإن من أعظم أشكال ترك المعصية أن لا يقاتل المرء حميّةً ولا عصبية ولا لدنيا أو مال أو ذكر أو جاه، إنما يقاتل لله وفي سبيل الله، أليس هذا هو أمر الله؟ هل أمر الله عباده بالقتال إلا في سبيله فقال: {وقاتلوا في سبيل الله}؟ أليست مخالفة هذا الأمر معصية لله؟ فكيف ينصر الله العصاة؟ يا أيها الناس: إني أشهد شهادة أصدقكم فيها وأصدق فيها الله. لقد عشت مع حوادث حمص الأخيرة يوماً بيوم واطّلعت على كثير من تفصيلاتها الدقيقة، فعلمت أن جنود الله الذين حملوا سلاحهم صادقين مخلصين لله لم يتركوه في ساعة عُسرة، وأن الآخرين الذين حملوه حميّة و"زغرتية" فقط لم يلبثوا أن نبذوه حين اشتدّ الكرب وحمي الوطيس. فيا أيها المرابطون المجاهدون: أخلصوا النيات واصدقوا مع الله واحتسبوا رباطكم في سبيله، واسألوه الثبات عند اللقاء يُمدِدْكم بالقوة والعزيمة والنصر بإذنه - تعالى -. * * * لقد رأينا في حمص العجائب، رأينا انتصارات كانتصار بدر، ولا غرابة، فإن أهل حمص قد أخلصوا لله وتخلّقوا بأخلاق الصدر الأول من هذه الأمة فنصرهم الله بصبرهم وطاعتهم وجهادهم. ورأينا فيها هزائم كهزيمة أُحُد، والذين هُزموا في أحد لم يكونوا مشركين ولا من اليهود أو المجوس، إنما كانوا من خيرة البشر وكان معهم خير البشر، محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمنع ذلك من أن يُخطئوا فيُهزَموا. لقد هُزموا فعلاً، ولكن الله لم يتركهم بلا علاج، فأنزل في كتابه الكريم آيات صريحات واضحات بَيّنات تكشف لهم خطأهم وتدلهم على أسباب هزيمتهم، بل لقد بلغ من أهمية الأمر أن القرآن لم يعالج مشكلة قط ولا علّق على حادثة من الحوادث بمثل الطول الذي علّق به على هزيمة أحد، ليس لأن المسلمين فقدوا فيها سبعين شهيداً، فليس الشهداء السبعون كارثة في معركة بناء دولة الإسلام وأمة الإسلام، ولكن لأهمية الدرس وأهمية العبرة. فاتقوا الله يا أيها المجاهدون، وادفعوا الهزيمة بالطاعة والإخلاص والثبات وتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف. اقرؤوا الآيات البيّنات في سورة آل عمران، ثم قفوا ملياً عند آية الختام، فإنها خلاصة المسألة وإنها دواء الأدواء:{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. والله ناصركم ولو بعد حين، بإذن الله رب العالمين.
المصدر: الزلزال السوري
حسين أحمد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة