ماجد الدرويش
تصدير المادة
المشاهدات : 8566
شـــــارك المادة
أخرج الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه، عن أَبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَدْرِيِّ، - رضي الله عنه -، قوله: "قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))".
قال الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار: "وكان معنى ذلك -والله أعلم- الحض على الحياء والأمر به، وإعلام الناس: أنهم إذا لم يكونوا من أهله صنعوا ما شاؤوا، لا أنهم أُمروا في حال من الأحوال أن يصنعوا ما شاؤوا.... بمعنى: إذا لم تستحيي صنعت ما شئت. وقد يكون ذلك على الوعيد، والوعيد لفظه لفظ الأمر، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك. ومنه قول الله - عز وجل -: {اعملوا ما شئتم}[فصلت: 40]، وقوله - عز وجل -: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم}[الإسراء: 64]. ثم أعقب - عز وجل - ذلك بما بين لهم المعنى الذي يخرج أهله إلى ما يخرجهم إليه ويدخلهم فيما يدخلهم فيه بقوله - عز وجل -: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}[النساء: 120]. فكان لفظ ذلك لفظ الأمر، وباطنه النهي والوعيد". وفي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَار وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْهُ، فَإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ)). وعندهما عن عمران بن حصينٍ - رضي الله عنهما -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ)). وفي رواية لمسلمٍ: ((الحياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ))، أَوْ قَالَ: ((الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ)). وعندهما عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((الإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً: فَأفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إلهَ إِلاَّ الله، وَأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ)). قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في رياض الصالحين، باب الحياء من كتاب الأدب: "قَالَ العلماءُ: حَقِيقَةُ الحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ القَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ في حَقِّ ذِي الحَقِّ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبي القاسم الْجُنَيْدِ - رحمه الله -، قَالَ: الحَيَاءُ: رُؤيَةُ الآلاءِ - أيْ النِّعَمِ -، ورُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى حَيَاءً. وَالله أعلم". قال الإمام ابن عَلّان الصدِّيقي - رحمه الله - في (دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين): "وإنما جعل من الإيمان وإن كان غريزة لأنه: قد يكون تخلقاً واكتساباً كما في أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على أفعال البر مانعاً من المعصية". وقال: "صاحب الحياء قد يمتنع عن أن يواجه بالحق من يستحي منه، فيترك إنكار المنكر عليه وأمره بالمعروف، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة. والجواب ما أجاب به ابن الصلاح وغيره من أن ذلك المانع ليس حياء حقيقياً بل صورياً وإنما هو عجز وخور ومهانة، وتسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا، ويدل عليه ما ذكرنا عن الجنيد" ا.هـ. يفهم من كلام الإمام النووي - رحمه الله تعالى - أن الحياء على مراتب: أعلاها مراقبة الله - تعالى - فيما أمر ونهى، ومنها معنى يتعلق بالتعامل بين الناس. ومن كلام ابن علان أن الحياء منه محمود ومنه مذموم، وأن المذموم ليس بحياء على الحقيقة وإنما سمي به للامتناع لا غير، وهو الذي يطلق عليه الخجل. فالخجل خلق يحمل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ضعف في نفس صاحبه. أما الحياء فلا يمنع من هذا وهو (لا يأتي إلا بخير). فترك القبيح ينعكس على الإنسان نفسه، كما على مجتمعه القريب والبعيد، فيأمن الناس شره، ويأنسون ببره وأدبه. أما لو أنه سلك مسلك القبائح فسوف ينعكس ذلك على سلوكه وعلى مجتمعه القريب والبعيد، فيتحول هذا الإنسان بالقبيح المتلبس به إلى مصدر قلق وإزعاج وخوف وإجرام. وهو من مقصود قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا لم تستحِ فصنع ما شئت)). وما الشرور التي تطغى على المجتمعات اليوم إلا ثمرة من ثمار انعدام خلق الحياء عند الناس. ولن يجد ذو عقل مشقة في استنتاج ما عَكَسَهُ ترك خلق الحياء على المجتمع الذي يعيش فيه. مع العلم أن العالم كله اليوم بات أشبه بمجتمع واحد، لذلك فإن ترك الحياء في مجتمع مثل أمريكا مثلاً سيجد صداه في مجتمع مثل المجتمع اللبناني، ذلك أننا في هذه المنطقة من العالم، وأقصد بها المنطقة العربية التي يشكل لبنان جزءًا منها، نتتبع الغرب حَذْوَ القذة بالقذة، ((حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍ خَرِبٍ)) لدخلناه وراءهم. كما أخبر نبينا الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام -. وهذا نراه في تشبه أبنائنا بأبنائهم، وبناتنا ببناتهم، ورجالنا برجالهم، ونسائنا بنسائهم.... وفي تشبه حكامنا بحكامهم... فحكام الغرب لا يتوانون لحظة عن دعم أي عمل فيه قتل وإبادة للمسلمين، والأمثلة كثيرة: البوسنة، كوسوفا، سربينتشا، العراق، أفغانستان. لذلك نجد أن حكامنا في بلاد الشام، وتأثراً بالغرب، يجهدون في إبادة شعوبهم بجامع كون غالبيتهم من المسلمين، ومن أيَّدَهم من غير المسلمين يأخذ حكمهم. وهل خلق الحياء خاص فقط بالمؤمنين؟ طبعاً لا؛ فهذا الخلق إنساني بشري، حيث وجد الإنسان، ومنذ وُجد، وقد وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه من كلام النبوة الأولى، مما يفهم منه أن أول من قاله هو سيدنا آدم - عليه السلام -. قال الإمام الخطَّابي - رحمه الله تعالى - في معالم السنن: "معنى قوله (النبوة الأولى) أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى، وأنه ما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبُعِثَ عليه، وأنه لم يُنْسَخْ فيما نُسِخَ من شرائعهم ولم يُبَدَّلْ فيما بُدِّلَ منها؛ وذلك أنه أمر قد عُلِمَ صوابُه، وبان فضلُه، واتفقت العقول على حسنه. وما كان هذا صفته لم يجز عليه النسخ والتبديل". من هنا كان قول الإمام الواحدي: "الاستحياء من الحياة، واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب. قال: والحياء من قوة الحسّ ولطفه وقوة الحياة". وقال الإمام ابن فَوْرَك في مشكل الحديث وبيانه: "يُرِيد إِذا لم يستح الرجل ركب كل فَاحِشَة وقارف كل قَبِيح وَلم يحجزه عَن ذَلِك دين وَلَا حَيَاء". لذلك؛ فمن كان ذا حياة وعِلْمٍ بمواقع العيب كان الحياءُ من سجاياه وخلقِه. أما من كان ممن قال الله - تعالى - فيهم: {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}، أو ممن قال فيهم: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. فأمثال هؤلاء لا يجد الحياء إلى مسلكهم سبيلاً. وصدق القائل:
ليس من مات فاستراح بميْتٍ **** إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ
وأكثرُ مَنْ هذا حاله الذي اغترَّ بقوته المادية، وظنَّ أن أحداً ممن يستضعفهم لن يقدر على مغالبته، فيتسلط ويتجبر ويقتل ويبيد أجيالاً، كما فعل فرعون، فقط لأنه يرى أن قوته تعطيه هذا الحق. فأمثال هذا ليسوا من البشرية في شيء بل ولا من الحيوانية، لأن الحيوان عنده قوانين خاصة تحكم علاقة أصنافه بعضها ببعض، أما هذا فلا شيء يردعه، كالأعرابي الذي كان ينتمي إلى قبيلة قوية في عددها وعدتها، سئل يوماً: - ما العدل عندكم؟ - قال: أن أسطُوَ على غنم جاري فآخذها. - فقيل له: إذا كان هذا العدل، فما الظلم عندكم؟ - قال: أن يأتي جاري ويطالب بغنمه. هكذا هي مفاهيمُ مَنْ ركن إلى القوة بعيداً عن الحق، يضع معاني جديدة لمصطلحات معلومة لتناسب جبروته وانحرافه وظلمه وتسلطه على رقاب البشر، وإن كانت هذه المعاني تخالف كل التاريخ وكل القيم الإنسانية، فهذا كله لا يهم لأن صاحبنا فقد كل ما له علاقة بالحياء. فمن آثار انعدام الحياء مثلاً، ما نسمعه دائماً من ممثلين للمحافل الأممية من أن هناك مستويات مقلقة لأعداد القتلى في سوريا يومياً. ما الذي يعنيه هذا؟ هذا يعني أن على النظام السوري ألا يسرف في القتل اليومي، وعليه –مثلاً- أن لا يتجاوز العشرين قتيلاً في اليوم الواحد، فإذا تجاوزه فهذا مدعاة للقلق، أما إذا كان ضمن المستوى المقبول، فيمكن للمجتمع الدولي أن يتفهم ذلك. فهل هذه دعوة لوقف القتل؟ ومن آثار انعدام الحياء مثلاً، إطلاق سراح العميل فايز كرم من سجون الدولة اللبنانية. مع العلم أنه أدين قضائياً وبالأدلة الثابتة الدامغة أنه كان يتعامل مع العدو الصهيوني، وهو كان عميداً في الجيش اللبناني. وأقيمت له احتفالات طنانة رنانة من عائلته الصغيرة أسرته والكبيرة التيار الوطني الحر واستقبل في بلدته زغرتا بالزغاريد والابتهاج، مع العلم أن بلدة زغرتا محسوبة تاريخياً على النظام السوري، ومعلوم أيضاً أن زغرتا من أهم حلفاء (المقاومين الأبطال) في جنوب لبنان، ومعلوم أيضاً وأيضاً أن النظام السوري وحكام زغرتا حلفاء للمقاومة...
والسؤال: ما الرابط بين العمالة لليهود، وبين حزب المقاومة، وبين زغرتا، والنظام السوري؟ إنها معادلة صعبة الفهم، إلا من خلال قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). ثم إن العجب لا ينقضي من دولتنا المبجلة التي أطلقت سراح (العميل)، كيف أنها ومنذ أكثر من خمس سنين تعتقل شبانا البنانيين، طبعاً لم يتعاملوا مع العدو، ولكنهم تعاملوا مع دينهم وقيمهم، تعتقلهم دون محاكمات، تعتقلهم اعتقالاً إدارياً، أكثريتهم حتى اليوم لا يعلمون ما هو جرمهم!. في الوقت الذي تقام الفعاليات في لبنان للتضامن مع الموقوفين إدارياً في فلسطين، وبرعاية ومشاركة أحزاب المقاومة. فكيف يمكن أن نفهم هذه المعادلة الصعبة؟ يمكننا أن نفهمها من خلال ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). والأمثلة تطول، وخلاصة الكلام نحن نعيش الزمن الذي يؤْتَمَنُ فيه الخائنُ، ويُخَوَّنُ فيه الأمينُ، ويُصَدَّق فيه الكاذبُ، ويُكَذَّبُ فيه الصادقُ، ويتكلَّم في الناس الرُّوَيْبِضَةُ. !!.. وللحديث بقية.
المصدر: رابطة العلماء السوريين
فايز الصلاح
محمد العبدة
محمد نعيم الساعي
حسن عبد الحي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير