..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

يا دعاة التّسلّح اغربوا… إنّكم قومٌ تستعجلون

إبراهيم الأصيل

٥ سبتمبر ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3550

يا دعاة التّسلّح اغربوا… إنّكم قومٌ تستعجلون
85596665546.jpeg

شـــــارك المادة

انقضّ عليه مجموعة من أرذال القوم فأبرحوه ضرباً وأمطروه شتماً واستهزاءً به وبحريّته المزعومة ثم غيّبوه وراء الشّمس… والآن قد خرج… جسده ممزّق… آثار قيود الحديد على معصميه ورجليه… ظهره مشويّ لا تستطيع تمييز اللحم من العظم… يمضي في الشّوارع نحو ذلك الرّجل… الجو ملتهب والنّاس بين عشّاق للحريّة وبين زبانية الطّغاة ممّن قرّروا إبادة معارضيهم من أبناء وطنهم مهما كلّف الثّمن… نحو ذلك الرّجل… ألم يعدهم بمجتمع أفضل؟ ألم يعدهم بالنّصر؟ ألم يعدهم بالحريّة إن هم ثاروا؟ … إذاً ليطلب منه الحلّ…


تكون مخطئاً إن ظننت أنّ المكان هو سوريّة وأنّ الزّمان هو يومنا الحاضر… فالمكان مكّة… والزمان أربعة عشر قرن خلت… والشاب يدعى "خبّاب بن الأرتّ"، والرّجل صاحب دعوة الحريّة والثّورة ضد ظلم الطّغاة يدعى محمّد - عليه الصلاة والسلام -.
تشابهت الأحداث، فالصّراع بين الظّلم ودعاة الحريّة قديم قدم وجودنا على هذه الأرض، و"التشبيح" صنعة الظّالمين مذ أشرقت الشّمس عليهم.
نعود لخبّاب، شابٌّ سمع بدعوة للحريّة بمفهومها الأوسع وبالثورة بمعناها الأروع فاستجاب ومضى، لقي أشدّ أنواع العذاب، كان يوضع على الحديد المحمّى فلا يطفئه إلا ما يسيل من ظهره عليه، واليوم ضاقت به نفسه وهو في طريقه إلى ذلك الرجل ومنتهى رجائه "الدّعاء بالنّصر"، أتاه فقال: "يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، ألا ترى ما نحن فيه"، فقام - عليه الصلاة والسلام - مغضباً وقال: ((إنّه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرّجل فتحفر له الحفرة ويوضع فيها، ويؤتى بالمنشار على مفرق رأسه فينشر فلقتين فلا يردّه ذلك عن دينه، لكنّكم قوم تستعجلون، لكنّكم قوم تستعجلون)).
ولكن لماذا غضب وجلّ ما طلبه خبّاب دعوة بالنّصر؟ وأيّ ردّة فعل كان خبّاب ليلقى لو أنّه طالب برفع السّلاح مثلاً؟! من الأكيد أنّه - عليه الصلاة والسلام - لم يغضب لأنّه يريد لأصحابه الآلام والعذاب، لعلّه خشي على أصحابه أنّهم يريدون النّصر دون أن يدفعوا الثّمن وقبل أن يكتمل التّغيير في نفوسهم فيأتي مشوّها، وهو يعلم كلّ العلم أن الثّمر إذا قُطف قبل أن ينضج لا يُستساغ طعمه ولا يُشتهى.
واليوم تتعالى بعض دعوات التّسلّح هنا وهناك، متعلّلة ببطش آلة النّظام وبارتفاع حصيلة الشهداء والمفقودين والمعتقلين وبامتداد أشهر الثّورة، وكأنّ رفع السّلاح هو الدواء لداء استعصى على صيحات الشعب "سلميّة… سلميّة"، أو كأنّه مفتاح باب النّعيم الذي أغلقته أغصان الزيتون بأيدي ثوّار درعا.
وهنا لا بدّ من طرح بعض الأسئلة على دعاة التّسلّح ليجيبونا عليها قبل أن يأخذونا إلى حيث لا نعلم ولا يعلمون…
من سيسلّح الثوار ولماذا سيسلّحهم؟ من سيدفع الفاتورة وكيف سيدفعها؟ ألن تكون مقدّمة انتداب جديد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى؟ إذا انتصرت لوحدك كانت لك فرحة النصر وحدك، أمّا إذا شاركك غيرك المعركة كان شريكك في النصر وفي الغنيمة، ولربّما سعى لأن يستأثر بها وحيداً.
من يضمن أن لا نرفع السّلاح بوجه بعضنا البعض في المستقبل؟ من يضمن أن لا نتحوّل لمدن مربّعات أمنية لكل عصبة أجهزتها ومخابراتها وأمنها؟ من يضمن أن لا تشتعل أعمال الانتقام والثأر والغاضبون يمسكون الأسلحة بأيديهم ويقفون على بركٍ من دماء؟
من سنسلّح تحديداً؟ هل سنسلّح كل من مدّ يده لحمل السّلاح؟ هل سنسلّح أبناء مناطق معيّنة ونترك مناطقاً أخرى؟ هل سنسلّح أبناء طائفة ما ونترك أبناء طائفة أخرى؟ ألا نكون بذلك نؤسس لحربٍ أهليّة نعلم بدايتها ولا نعلم نهايتها ويذهب ضحيّتها المدنيّون والأبرياء؟
ماذا ستكون مهمّة الثوّار؟ مواجهة الجيش؟ مواجهة الأمن؟ ألا يوجد في الجيش أبناؤنا وأخوتنا وجيراننا وأصدقاؤنا؟ ماذا إذا اختبأ الجيش والأمن في الحارات والمشافي والمدارس والأبنية؟ هل سنتبادل قصف الأبنية بمن فيها؟
متى نتوقّف عن القتال؟ هل برحيل أشخاص معيّنين؟ وهل نكون بذلك حقّقنا مُرادنا وأسّسنا الدّولة المدنيّة؟ أم بإبادة كل من ساندهم فنحوّل بلادنا لمزرعة يُذبح فيها البشر بدون حساب؟ كيف نعاود جمع الأسلحة من أيدي الشعب بعد انتهاء المعارك؟ كيف نعيد تأهيل كل أولئك الذين شاركوا حمل السّلاح وإراقة الدّماء؟
هناك أعداد متزايدة يومياً من المؤيدين ممّن ينفضّون عن القاتل بعد أن رأوا فظائعه التي لا تحتمل التّأويل، ألن نخسر الجميع إذا وضعناهم في مرمى بنادقنا؟ ما هي الخيارات التي نتركها للجندي الذي يجد رصاص "الثوّار" ينصبّ عليه سوى أن يبادلهم إطلاق النّار؟ كيف سيتصرّف من سنتركهم أمام خياريّ "قاتل أو مقتول"؟
لم لا ننظر بعينٍ إيجابية لما يجري اليوم؟ السّلميّة تفجّر طاقات الشعب وإبداعاته، وهذا نراه جليّاً في الدّعوات التي ينظمّها الشّباب يوماً بعد يوم، فتارة اجتماع بقمصان بيضاء، وصلاةٌ من أجل سوريّة، وإطفاء أضواء المنازل، وإطلاق "بالونات" الحريّة، وكرات الحريّة، وإبداعات في حمص وحماة وهنا وهناك لا حصر ولا عدّ لها، أغانٍ وأهازيج وأشعار وكتابات ومدوّنات وتمثيليات قصيرة وأفكار ومجموعات ونقاشات ودعوات وطُرف ورسومات… ما مصير كلّ هذا تحت أصوات المدافع والقصف المتبادل؟ لم نريد إسكات الجميع وندع الكلام للرصّاص؟
لا لن نرفع السّلاح، لن نرفع السّلاح وفي الجيش أهلنا وأحبّتنا، لن نرفع السّلاح لنتبادل إطلاق الرّصاص في حاراتنا، لن نرفع السّلاح لنقتل أنفَسنا بأنفِسنا، لن نرفع السّلاح لنقتل ما تبقى من إنسانيّتنا.
إيّاك أن تأخذك الحميّة وتتوه بصيرتك فتظنّها كيوم بدر، معركة بدر جاءت بعد خمسة عشر عاماً من التّعذيب والصّبر والسّلميّة، جُوّعوا فيها وحُوصروا وسُجنوا وعُذّبوا وقُتلوا وبعد أن أصبح هناك معسكرين واضحين ولونين متمايزين تقابلا خارج المُدن وبعيداً عن المدنيّين، اليوم الوضع مختلف كليّاً، لسنا بحالة مواجهة بين معسكرين في الصّحراء والخصوم اليوم يعيشون في بيتٍ واحد والألوان ليست أبيض وأسود وإنّما درجات غير منتهية من الرّماديّ.
أنا أكتب هذه الكلمات ولست مصاباً بطلق ناريّ ولا تغطّي جسدي آثار التعذيب، أعلم هذا كلّ العلم وأعلم أن هناك من ذاق ويلات العذاب والاضطهاد، ولكنّ الحلّ لا يكمن بأن أستغلّ عذابات المقهورين فأدفعهم إلى مزيدٍ من الألم والدّمار، بل أن نصوّب بعضنا البعض. لا ينكر أحد منّا وجود حالات فرديّة هنا وهناك رُفع فيها السّلاح، فلن نستطيع ضبط الملايين وخصوصاً في الأرياف ممّن يتعرّضون لحملات قمع وحشية تطال أعراضهم وأملاكهم، ولكن الخطر أن تتحوّل الحالات الفردية إلى إستراتيجية أساسيّة للشعب، وأن تتحوّل بنادق الصّيد لمدافع ومضادات للدّروع.
صبراً فإنّما النّصر صبر ساعة، ولعلّنا نعرف جميعا فضل "سلميّة" خبّاب ومن معه ونهجهم السّلميّ في إسلام عمر بن الخطّاب الذي أعز الدّعوة الجديدة وأتباعها المستضعفين، فبعد أن دخل عمر على أخته وزوجها وسمع تلاوتهما للقرآن ضربهما فسالت دماؤهما وخرج إليه خبّاب قائلاً: "والله يا عمر، إنّي لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإنّي سمعته أمس وهو يقول: ((اللّهم أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب))، فاللهَ الله يا عمر…"، فلم يحتمل عمر منظر الدّماء التي أسالها على وجه أخته وزوجها وكلمات خبّاب الرّقيقة ودعاء الرّسول –صلى الله عليه وسلم- اللطيف فقال عند ذلك: "فدلّني يا خبّاب على محمدٍ حتى آتيه فأسلم".
السّلميّة هي التي تليّن القلوب فتجذبها، وتجلو كدر العقول فتقنعها، هي التي تجذب عتاة أعدائك ليصبحوا جدراناً تتّكئ عليها إذا تعبت، هي التي اتّبعها أنبياء الله ورسله، موسى وعيسى ومحمّد -عليهم صلوات الله وسلامه-، هي التي لا تعينك على أن تهزم عدوّك فحسب، بل على أن تنتصر على كلّ عيوبك، هي التي لا تزيل ديكتاتورية فحسب وتترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لقدوم دكتاتوريّة جديدة… بل تزيل الديكتاتورية وتؤسس لدولة مدنيّة استحقّها شعبٌ زرع فصبر فحصد، وتجذّرت الحضارة في نفسيّته وعقليّته وثقافته.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع