مهنا الحبيل
تصدير المادة
المشاهدات : 3212
شـــــارك المادة
مع أن زاوية هذا المشهد وجدانية عاصفة لكل الحياة الإنسانية إلا إننا سنتناولها وسياقاتها في ذات مسار التصاعد التدريجي للثورة السورية برؤية تحليلية سياسية وإستراتيجية مجددًا، تتصل مع ما طرحناه سابقًا، وتحقق بالفعل في تطور الانتفاضة السورية ووصولها لمرحلة الثورة على الأرض بفدائية سلمية منقطعة النظير أمام وحشية تروّع الكائن الإنساني وتُظهر له دلالات تركيبة النفس في نظام الأسد ونخبته الخاصة.
المجازر تسقط أمام الإعلام: وهنا ونحن نُسقط المشهد في لحظاته الأخيرة لتوثيق علاقته الدموية المتغولة بمقدمات انهيار برنامج النظام واضطرابه الخطير في تكرار المؤامرة. يبرز لنا مشهد شوارع بانياس وحشود المدنيين ثم تصويب النار مباشرة على مجموعة من النسوة العُزّل واغتيالهن واقتحام الدبابات للمدينة ثم الهجوم على طفس وحمص وسقوط عشرات الشهداء والجرحى وإعادة انتشار ضخمة في ريف دمشق في حين يعلن التلفزيون السوري أنّ ريف دمشق وهذه المدن تحت قيادة المجموعات السلفية المزعومة. وقد رأى النّاس صوراً موثقة بالعشرات لكل اجتياح والرَمي المباشر للمواطنين ودبابات متترسة في الشوارع للمدن المجتاحة التي لم يُشيّع بعض شهدائها حتى الآن ومع ذلك لا تزال هذه الجماعات مسيطرة بحسب النظام. في حين يعيد إعلانه بأن الجيش أنهى مهمته في درعا. ثم يتبين أنهم في حمص بحسب ادعاء.. وكان النظام يقول دهراً: إن المشكلة فقط في هذه المحافظة درعا -الإرهابية- في كتلة من التناقضات تؤكد فشل مساره الإعلامي. وهذا الاجتياح الموسّع الذي وصل إلى خمس مدن بإضافة الرستن وتبليسة مع حشود مكثفة يعطي صورة مباشرة هنا لتصاعد أعداد وحراك الثورة وتوسّعها وانضمام دير الزور الصلبة والحضور الحموي القوي الملهب للمشاعر التاريخية، وانطلاق مشاركة متصاعدة من حلب مع مظاهرات للعاصمة في ميدان دمشق في جمعة التحدي المنصرمة. كل ذلك يُعطي مؤشّر تحليل سياسي عميق جداً وهو أن النظام يواجه نفيراً شعبياً عاماً وهو الذي لا يزال يعترف عملياً بعجزه عن إخضاع درعا خاصة بعد تطويقه لوفود الصحفيين الأجانب الذين دعاهم وعبر بالصحفيين في جوانبها ساعة بعد أن هدد الأهالي ليحاول أن يهيئ المشهد للجنة تقصي الحقائق الدولية، ومع ذلك أعلن في نهاية الأمر رفضه لزيارة اللجنة كدليل لعجزه عن تغطية المشهد الإنساني المفجع. ومع أن الأهالي في زيارة الإعلاميين وضعوا تحت التهديد وثّق الصحفيون صرخات وشهادة مباشرة من بعض شهود درعا بصورهم المباشرة. ومع كل ذلك الاستعداد والمحاولة المستميتة للنظام بتحويل الرؤية الدولية عن درعا رصدت كاميرات التصوير الشخصي بعد ساعات عودة المدرعات إلى درعا بل وعملية قنص جديدة مع نقل أخبار متزايدة؛ بدأ السوريون يوثقونها بينهم عن الضحايا العسكريين الذين رُموا من خلف ظهورهم، واعتماد الشعب بلاغات الأهالي المباشرة عن عمليات الاغتيال الواسعة التي نفذتها -سرايا الدفاع- الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد ضد العسكريين المتمردين على أوامر إطلاق النار على المدنيين العزل. وكان لكشف النقاب عن أن مجموعة الشباب الفلسطيني الذين صفّاهم النظام كانوا من المخيمات القريبة التي سعت لتهريب حليب الأطفال وبعض الأغذية لدرعا رسالة تاريخية للثورة. وكم كان ذلك المشهد معبراً عن بطل الممانعات العربي الذي عيّر أقوامًا بأنهم أنصاف رجال؟ إذن؛ هذا السقوط المتتالي لمشهد النظام وعجزه عن تغطية هذه المجازر في حين يحتشد الرأي العام الدولي والعربي فضلاً عن كتلة الشعب السوري ليتلقّى حقائق موثقة ويُسقِط كل من يشكك فيها من مثقفين وفنانين كانوا ردحاً من الزمن يتغنى بعضهم بكأس كرامة تشرين، وإذا به يشرب من دماء ثورة شعبه. وما يعنينا هنا خسارة النظام لكل الطواقم التي استنطقها من الداخل فسقط عند دماء نساء بانياس وأطفال درعا لتشكل هزيمة معنوية له ورافد انتصار روحي لحركة الحرية. في ذات الوقت الذي ارتفع عدد المعتقلين السياسيين من نشطاء وقادة معارضة ومتظاهرين بسطاء إلى عشرة آلاف معتقل. وهو ما يعني نكسة للنظام في تزايد عملية الرفض لهيكله وهزيمة خطته الإصلاحية المزعومة. لماذا النظام يخسر بتعدد مجازره؟ دعونا نذكر بما قلناه في المقال السابق "سوريا.. الجمعة العظيمة وانتصار العزيمة"، وذكرنا تحديداً بأن ثورة الشعب السوري قررت مبكراً عدم السماح بإعادة تجربة مذبحة حماة، وأن هناك شواهد قوية على أنّ تنسيقيات مدن القطر قد اتخذت قراراً بالنزول للميدان لفك الحصار عن درعا وإنهاك النظام، وهذا ما تحقق فعلياً وبدا بارزاً للمراقب السياسي سرعة انكشاف إستراتيجية النظام. وليس هناك شك بأن هذا الاضطراب الذي يعيشه النظام حالياً وهو ينقل أعماله العسكرية الدموية بين نواحي متعددة من مدن القطر تحقق عبر فدائية أسطورية جماعية من حركة الثورة السورية وقواها الشعبية، فصُدم النظام كمقدمة انهيار من أن هذا التوزع في مدن القطر تحقق، ودرعا لم تزل صامدة، بل إن ما ينقل من الداخل الدرعاوي كان قوة معنوية هائلة إثر تلقي درعا رسالة الشعب السوري من كل المدن وخاصة من القامشلي الكردية السورية وحركتها الديمقراطية التي استمر هتافها بالدم بالروح نفديك يا درعا. كارثة النظام في ميدان الثورة: هنا وعند عودتنا لرؤية المسقط الفوقي لهستيريا بعثرة الجيش وإطلاق النار المكثف الذي يمارسه النظام بمحاولة جنونية وهو يتعثر أمام ميدان الثورة الذي أرغم النظام على توزيع قواه وهزيمته الإعلامية وفضيحته الإنسانية، وأمام حركة الاستشهاد للصدور العارية في خريطة مدن القطر، تعزز ملف التمرد العسكري وثبت حضوره ووُّثق في أكثر من فرقة ولواء في ذات التوقيت الذي عجز النظام عن حسم الأمور في مدينة واحدة من مدن الثورة. وكما قلنا سابقاً؛ فإن أي نسبة متدنية من أي تمرد عسكري انحاز لحماية المدنيين يُشكّل ضريبة مكلفة وكارثية على الأسرة الحاكمة ونخبتها الأمنية الخاصة في دمشق. ولقد انعكس هذا الاضطراب ذاته في داخل الجهاز الحكومي الخاص مع أطراف من خارج الأسرة الحاكمة. وبغض النظر عن صحة ما يقال عن ما تعرض له فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية وبثينة شعبان الوزيرة والمستشارة الحالية؛ إلا أن الحقيقة هي أنهما غابا فترة زمنية طويلة وحسّاسة في تاريخ الحراك الشعبي خاصة بأن هاتين الشخصيتين هما من أوكل لهما الترويج بالإصلاح المزعوم، وكأن النظام حين سحبهم من المشهد قد أعلن بذاته فشل دعائية مشروعه المزعوم سواء أخرجت هاتان الشخصيتان مجددا أو ثبت تحييدهما. فزعة الخليج.. الخوف البائس: وأمام قوة هذا النجاح الشعبي الداخلي برز حراك للنظام الرسمي في الخليج لدعم نظام الأسد، سنشرح بعده حتى نفهم صورة الانعكاس الإقليمي. وهذا المشهد الخليجي مع دمشق يفهم أولًا من تل أبيب، كيف ذلك؟ كل الرصد السابق عزز حقيقة قلق تل أبيب على مستقبل النظام في دمشق كأوثق حالة جُربت لتأمين الحدود السورية مع الكيان، ونذكر هنا بتصريح رامي مخلوف لنيويورك تايمز الذي حذر الغرب من أن فقدان استقرار النظام سيؤثر على استقرار إسرائيل. ومع عجز البعد الإقليمي الآخر وهو إيران عن تأمين الدعم الكافي لنظام دمشق لقوة الحراك الثوري السوري الذي انتصر على إيران في مسارين: الأول: عزل الحالة الطائفية الدعائية التي ركزت عليها إيران، والثاني: انكشاف مبكر لبرنامج المجموعات الشبابية المحسوبة على إيران في دمشق والذي فصل دورهم المضاد للشباب السوريين المؤيدين للثورة طلبة جامعة دمشق في البيان الذي نشرته السبيل الأردنية عن أحداث جامعة دمشق. وبالتالي كان يجب على واشنطن تحريك بعض عناصر المنطقة لتغطية إضافية لهذا الدعم، خاصة أن وضعية واشنطن والضغط عليها من المشهد الأميركي الداخلي لا يسمح لها بإظهار هذا الدعم أو تحمل مسؤولياته والمجتمع الدولي يرقب تخاذلها وتسويفها المنهجي لمصلحة الأسرة الحاكمة في دمشق. وكعادة حماقة الموقف الخليجي رغبة في الفوز برضا العاصمتين تل أبيب وواشنطن بدؤوا في تنفيذ الدور، لكن هذا الدور الخليجي الذي تجسّد في دعم مالي وزيارات تضامن بات في اضطراب شديد، حيث يُدرك أن نظام الأسد الجديد إذا عاد لن يُجيّر لهم هذه الخدمة بل سيتقاسمها مع الأميركيين. ولذلك رصدنا اضطراباً بين عواصم الفزع الخليجي، وخاصة مع الهجوم السوري المنظم على قطر التي رأت أن تنأى بنفسها عن هذا الحراك، لكن السوريين والإيرانيين صعدوا على قطر لتغطية الجزيرة، والعجيب أن لافتات شكر قطر لمساهمتها في إعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي 2006 في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب تبخرت في ساعات. ما يعنينا أن هذه التغطية المضطربة لأركان في النظام الرسمي للخليج تتعثر وتفشل في وقف زخم الثورة التي كان سرها ودليلها الأول أنها تُدار من الداخل فقط وكأنها شهادة تأكيد جديدة لقوة استقلال ثورة الشام، وهذا لا ينفي مسؤولية النخبة الفكرية في المنطقة بضرورة تذكير ساسة الخليج الذي يحتشد شعبه مع الثورة السورية كون الشام قلب المشرق في صورة اندماجية كاملة، وكأنما شهداؤها يسقطون على ساحل الخليج العربي وبين بيوته. وهو ما سيعزز التكلفة التي سيسددها برنامج التغطية الخليجي في المستقبل إن لم يتراجع عن دعم الأسرة الحاكمة في دمشق. مسار الانتصار بدأ يتبلور: هل هناك مأزق للنظام مع المشهد الدولي رغم تواطؤ تل أبيب وواشنطن؟ نقول: نعم، فالقضية لم تعد إدارة بالرموت كنترول بعد عهد الثورات العربي، ومفاجآت التقلبات، وحراك المنظمات الإنسانية ولجنة تقصي الحقائق، وإعادة تفكير الغرب بمستقبل العلاقة مع الشرق الجديد، كلها عوامل تضغط على النظام خاصة بعد صمود وقوة الثورة في الميدان، ونلحظ هنا كيف أضحت قضية أسطورة درعا تحاصر النظام في الحرب السياسية أشد مما يحاصرها، وهذا عامل إضافي يعزز عوامل النصر للثورة السورية، وهذا الضغط الدولي من مصلحة الثورة أن يقف عند حد التصعيد والعقوبات وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وهو في كل الأحوال لن يجرؤ على أكبر من ذلك، وهذا هو المسار المناسب للثورة الحاسمة في استقلالها ورفض أي تدخل أجنبي مما يحرج النظام ويسقط دعايته. لكن عنصر التقدم المشهود والمتصاعد إستراتيجياً هو حركة الثورة في الميدان وانتشارها الأفقي والعددي والمعنوي وروح الفدائية، وتعزز انسجام التنسيقيات المذهل بينها، ولعلنا ندرك جميعاً أن حركة الإضراب العام ثم الخروج الشعبي الموحد من صور الحسم الشامل للثورة، لكنني أميل هنا إلى الثقة في برنامج التدرج ومفاجأة النظام في لحظة قرار مباشر تقرره التنسيقيات التي أثبتت قيادة دقيقة موزعة أفقية دون رؤوس معلنة فأعجزت النظام الإرهابي عن اختراقها رغم وحشيته. ولست ميّالًا كذلك لإعلان جسم سياسي الآن للثورة فبقاء الوضع تحت الأرض أسلم، خاصة أن هناك حالة انسجام بين المعارضة، وبالذات إعلان دمشق وبين النشطاء الحقوقيين وقيادة الثورة الميدانية وهو ما يكفل وجود قاعدة لملء الفراغ، والمهم ملء فراغ الجيش بعد السقوط، وهو الذي أظهرت انشقاقاته مفاجآت كبيرة لمصلحة الثورة، هي على كل حال في الشام -إن جاز التعبير- أم الثورات. ولعل هذه الحركة من الاستشهاد والمواكب الروحية وتحمّل فنون التعذيب لمن لم يستشهد في المعتقلات إعلان تاريخي للعرب. دمشق تعلن أم الانتصارات.
المصدر: الجزيرة نت
فيصل القاسم
ماجد كيالي
ميشيل كيلو
مجاهد الطائي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة