..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

شخصية النظام بين الضعف والقوة

أكرم حجازي

٢٠ مايو ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3166

شخصية النظام بين الضعف والقوة
2255600.jpeg

شـــــارك المادة

الحديث عن عسكرة الثورة السورية مختلف تماماً عنه في الثورة الليبية. فحمل السلاح في حالة الثورة الليبية كان خيار السلطة، وليس اختياراً شعبياً تمكنت الحشود فيه من طرد النظام سلمياً من كامل الشرق الليبي.


وكذا الأمر بالنسبة للثورة السورية، حيث النظام السياسي هو من بدأ باستعمال السلاح منذ اللحظة الأولى في حوران. لكن الفرق بين الثورتين يكمن في تمايز المعطيات الجغرافية والديمغرافية التي تميز البلدين. فما بدا مغريات للقذافي كتوفر المساحات الشاسعة جداً والمسافات الطويلة بين المدينة والأخرى، وسط قلة في الكثافة السكانية يمكن قهرها، قد يكون من الكوابح المؤثرة في حالة الثورة السورية حيث المساحة قليلة، والتقارب الكبير بين المدن والقرى، مشفوعاً بكثافة سكانية قادرة على تأمين حشود بشرية يمكن أن تشكل بديلاً عن حمل السلاح، فيما لو تبلورت في سياقات أكثر فعالية مما هي عليه الآن. فما هي إذن مكامن القوة والضعف عند الجانبين؟ وهل ثمة جدوى من اللجوء إلى السلاح؟
شخصية طائفة.. ورئيس.. ونظام:
بخلاف المجتمع فالنظام الحاكم في سوريا هو نظام طائفي يتوارى خلف العلمانية؛ لتشريع طائفيته بحيث تكون مقبولة لدى المجتمع من جهة، وعموم القوى الوطنية المحلية والعربية من جهة أخرى؛ لذا وطوال عقود عاش النظام على أطروحة حزب البعث دون أن يكون للحزب ولا حتى لأطروحته شأن في السياسات السورية داخلياً وخارجياً. بل إن حزب البعث لم يعد له أي سلطة تذكر إلا كشماعة يتضمنها الدستور السوري، وبها يحتكر السلطة والقيادة. لكن واقعياً فالسلطة نصيرية في الصميم، حتى لو ساندتها رموز سنية مصطنعة، دون أن يعني هذا امتيازاً لكل الطائفة بقدر ما هو امتياز لحفنة متسلطة عليها وعلى المجتمع. والبديهي من القول: إن ما يظنه غالبية النصيرية في الطائفة هو عين ما يظنه غالبية الرافضة في مشايخهم وعمائمهم.
هكذا فإن مشكلة النصيرية كطائفة هي مشكلة كل فرد فيها، ومشكلة النظام السياسي، ومشكلة كل المجتمع السوري، بكل طوائفه. فما من طائفة أو قومية أو إثنية تحترمها، لا أهل السنة ولا العرب ولا الأكراد ولا الأرمن ولا المسيحيين ولا هذه ولا تلك.
ولعل النصيرية هم أكثر من يعرفوا السبب في ذلك، والذي يكمن في معتقداتهم ومنظومتهم الأخلاقية التي لا تحتملها أي طائفة أو قومية أو إثنية حتى الطائفة الشيعية الجعفرية. لذا تبدو الطائفة، أفراداً وجماعات، وجسة ممن حولها.. فزعة من محيطها.. تحسب كل صيحة عليها.. الكل يستهدفها.. والكل ينبذها. هي باختصار تعيش كمن على رأسه الطير.. بدءاً من الرئيس حتى أصغر مرتبة.. ومن الشيخ حتى أجهل فرد فيها. الرزانة التي بدا عليها الرئيس الأب (حافظ الأسد) يفسرها البعض بخلفيته العسكرية. لكن ملامح الغضب والخوف والدموية والشعور الطاغي ببنارويا الشخصية لم تفارقه حتى قضى نحبه. لكن ذات الرزانة التي تميز الرئيس الابن (بشار)، غالباً ما قطعتها ابتسامة عريضة لشخصية أضناها الخوف والنبذ والبحث عن الرضا والقبول الاجتماعي رغم أنها في قمة السلطة. تماماً كشخصية الفتى الذي بدا متردداً وجزعاً من التجرؤ على دوس ظهر أحد المواطنين حتى وهو مكبل اليدين ووجهه إلى الأرض رفقة العشرات من زملائه.
هذه هي شخصية النظام الحاكم في سوريا. نظام تتملكه الدونية والخوف الشديد من أن يفقد سلطانه، فيدفع ثمناً باهظاً لقاء ما نضحت به شخصيته، واقترفته يداه من ظلم وجرائم بحق السوريين والعرب، على مدار ستة عقود.
وبناء على ذلك؛ فليس من المستغرب ولا العجيب أن يلجأ النظام إلى القتل منذ اللحظة الأولى للثورة.. وليس عجيباً أن يوقع أشد ألوان التعذيب بحق ما يعتبره «آخراً» سواء كان طفلاً أو شاباً أو شيخاً أو امرأة، مدنياً أو مسلحاً، لا فرق.. وليس عجيباً أن يستغني عن وسائل مكافحة الاحتجاجات التقليدية بما أن مقاومة الخوف عنده، لا تتم إلا عبر القضاء السريع على الخصم أو إخضاعه التام. وليس عجيباً أيضاً أن يمعن أعضاء مجلس الشعب في ابتسامات النفاق والتصفيق الرقيق وغير المبرر كلما أطل الرئيس عليهم في مناسبة ما وكأنه طفل وديع مسالم يحتاج الرعاية الدائمة من عواجيز المجلس.. وليس غريباً أيضاً أن يحرص المسؤولون السوريون الرسميون وحتى الكثير من المثقفين، من شدة الخوف والبطش، على ذكر عبارة «السيد الرئيس»، ويستشهد بها في كل شاردة وواردة، حتى لو تحدث أحدهم إلى نفسه.
بعد بضعة أيام على انطلاق المسيرات الاحتجاجية في مدينة درعا خرج الرئيس السوري بخطاب (30-3-2011) غلب عليه التوجس من الإصلاحات ونوعها.
ومن الطريف أن يفسر بعض المراقبين توقيت الخطاب ومضامينه الداعية إلى عدم التسرع في الإصلاحات، برغبة النظام الظهور بمظهر القوي الذي يحرص على عدم التعجل بتقديم التنازلات خشية أن تفهم كاستجابة لتهديد الشارع! وكأن الشارع من البلاهة والغبن والقصور بحيث يحتاج إلى وصاية تحميه من أذى نفسه أو أذى السلطة الرشيدة. وفي منطوق الخطاب تحدث عن «فتنة» و«مؤامرة» ممتطياً ظهر الطائفية، في محاولة لوأد الثورة في مهدها، ومهدداً بأن: «وأد الفتنة واجب وطني وأخلاقي وشرعي، ومن يستطيع وأدها ولا يفعل فهو جزء منها».
نظام يبحث عن شرعية:
وفي الخطاب، أيضاً، اكتفى الرئيس السوري بالحديث عن «مؤامرة» تديرها أطراف بعيدة وأطراف قريبة، لكنه لم يحدد هويتها إلى أن تطوع الإيرانيون عبر المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية رامين مهمان برست (12-4-2011) الذي كرر ذات المفردات التي حملها خطاب الرئيس السوري، وحدد هوية المتآمرين مشيراً إلى أن: "المظاهرات المناهضة للحكومة في سورية تجيء في إطار مؤامرة غربية لزعزعة حكومة تؤيد المقاومة.. وأن ما يحدث في سورية عمل شرير ينفذه الغربيون والأميركيون والصهاينة خاصة".
إذن؛ هم الغربيون والأميركيون والصهاينة!!! أما لماذا تتحدث إيران بهذه اللغة، وكأن سورية محافظة إيرانية؟ فلأن هكذا نظام، يعاني ضعفاً شديداً في شخصيته، لا ريب أنه يحتاج إلى نصير موثوق وغير مألوف، كي يواري به سوآته. لذا فقد تبنى قضايا الثورة والتحرر الوطني أكثر من غيره، في محاولة للتطهر ودفع الشوائن عنه.
لكن ثورة الخميني في إيران جاءت بمثابة الهبة والرافعة الحقيقية له، مع أن اعتراف المذهب الجعفري الاثنى عشري بالطائفة النصيرية أواخر السبعينات من القرن العشرين لم يكن أزيد من اعتراف إعلامي تمليه احتياجات إيران لضمان عبور آمن وقوي إلى المنطقة. وتحديداً إلى الطائفة الشيعية في لبنان ذات الذراع الطويلة في تركيز مشروعية الدولة الصفوية، تاريخياً، ومدها بالشرعية المذهبية وما تحتاجه من علماء قارب عددهم على المئة ممن هاجروا إليها من جبل عامل، وتقلدوا فيها أعلى مراتب القضاء والنفوذ. بل إن المذهب الجعفري يرى في النصيرية ذاتها طائفة غلو لا يستطيع تحملها ولا القبول بها، ولا الثقة بها على المدى الطويل؛ لدرجة أن حملات التشييع في سورية طالت 52 ألف فرد من الطائفة بنسبة تقارب الـ 70% من إجمالي المتشيعين في سورية.
قانون الطوارئ وقصة السلفية:
فزع النظام وارتباكه لا حدود له. فما أن سقطت فزاعة الطائفية تحت هدير الشعارات القومية مثل: «الشعب السوري واحد» حتى دخلت عبارات مثل: «المندسين» و«العصابات المسلحة» على مفردات الخطاب الإعلامي للنظام. وحتى هذه العبارة لم تعد كافية بحسب بيان وزارة الداخلية السورية (8/4/2011) التي حصرت تظاهر مئات الآلاف في المدن السورية بـ «مجموعات من المواطنين» توعدتهم بالويل والثبور: «لم يعد هناك مجال للتهاون والتسامح.. ولن نسمح بالخلط المتعمد بين التظاهر السلمي والتخريب وزرع الفتنة و... ». لكننا لم نقف على هوية هذه العصابات المزعومة إلا حين وجه النظام اتهامات لتيار المستقبل اللبناني ما لبثت أن توارت أهميتها لاحقاً، ثم حين زعم النظام الكشف عن أسلحة قادمة من العراق!!! لكن الحقيقة ظهرت بعد الخطاب الثاني للرئيس بشار (16-4-2011)، والذي دعا فيه للقيام بإصلاحات والإسراع في إلغاء قانون الطوارئ.
في 18-4-2011 أصدرت وزارة الداخلية السورية بياناً قالت فيه أن: «مجريات الأحداث الأخيرة كشفت أن ما شهدته أكثر من محافظة سورية.. تمرد مسلح تقوم به مجموعات مسلحة لتنظيمات سلفية»، محذرة من أنها: «لن تتساهل مع النشاطات الإرهابية لهذه المجموعات المسلحة التي تعبث بأمن الوطن وتنشر الإرهاب والرعب بين المواطنين».
هذه المصطلحات الجديدة «مجموعات مسلحة لتنظيمات سلفية»، يستعملها النظام كفزاعة جديدة لا يقوى أصلاً على مجابهتها فيما لو اتجهت لخوض مواجهة مسلحة معه. بل إن الشعب السوري دافع عن السلفية، بوصفها تعبير عن عقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة، دفاعاً مستميتاً ضد أطروحات النظام التي حاولت إلصاق تهمة الإرهاب بها. لكنها مصطلحات استحضرها النظام ليتزامن إطلاقها، لأول مرة، منذ بدء الاحتجاجات الشعبية مع إقرار الحكومة السورية (19-4-2011) لثلاثة مشاريع مراسيم تشريعية يقضي بـ:
(1) إنهاء حالة الطوارئ المفروضة في جميع أنحاء البلاد منذ سنة 1963م.
(2) إلغاء محكمة أمن الدولة العليا، وأخيراً.
(3) تنظيم حق التظاهر السلمي بعد موافقة وزارة الداخلية. وقبل ذلك لم نسمع عن أية مصطلحات ذات علاقة بالسلفية. فما الحاجة إليها إذن؟
بطبيعة الحال فإن نظاماً فزعاً من هذا النوع، وتهيمن عليه الذهنية الأمنية، لا يمكن له العيش بدون قوانين تسمح له بمصادرة الحريات، وتحقيق السيطرة والتدخل وقتما يشاء. لذا فالمشاريع الثلاثة لم تكن، في واقع الأمر، سوى ضرورات إعلامية كذبتها الاعتقالات الفورية على الأرض، وعمليات القتل الجماعية للسكان في تلبيسة وغيرها. والحقيقة أن إلغاء قانون الطوارئ يستوجب التهيئة لتمرير ما يسمى بقانون «مكافحة الإرهاب». وهو قانون ترافق ظهوره في دول العالم بعد أحداث 11 سبتمبر بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية. ولا ريب أن اعتماده، سراً أو علانية، من قبل النظام يعني تضمينه بمحتويات قانون الطوارئ وما هو أسوأ منه. لكن المبرر الوحيد لاعتماده يقتضي البحث عن فريسة مقبولة، لا يمكن أن تكون إلا «مجموعات مسلحة لتنظيمات سلفية» أو «مجموعات إرهابية» ذات صلة بحيث يكون مقبولاً دولياً ويمكن النظام، في الوقت نفسه من تلفيق التهم ضد الاحتجاجات الشعبية كيفما شاء، وارتكاب الجرائم ساعة يشاء، وحتى لو تطلب الأمر الإعلان عن «تمرد مسلح» يجتاح بعض المدن السورية كما جاء في بيان وزارة الداخلية!!!!
لا يحتاج المراقب إلى جهود بحثية لكي تتأكد له حقائق ما يجري في سورية بعد الإعلان عن المراسيم الثلاثة. ففي الجمعة الأولى بعد الإعلان (22-4-2011) سقط أكثر من 112 قتيلاً من المدنيين في مختلف المدن السورية.
وفي الجمعة الموالية (29-4-2011) سقط أكثر من 65 قتيلاً آخرين. بل إن النظام، وفي ظل إلغاء قانون الطوارئ، تعب من فبركة شرائط الفيديو وسوق المزاعم عن وجود «فتنة» و«مؤامرة» و«مندسين» و«عصابات المسلحة» وغيرها من التسميات؛ فاختصر الطريق، وحرّك فرقه القمعية ودباباته جهاراً نهاراً نحو المدن، وفصلها عن الريف، ونشر قناصته فوق أسطح المباني، وقطع عنها الإمدادات الغذائية والطبية والاتصالات، وأحكم حصارها، وشرع بحملات تصفية ومداهمات واعتقالات واسعة النطاق دون أن ينسى قصفها بناء على «استغاثة السكان» بحسب تصريح المصدر العسكري المسؤول!!!
مدرسة غوبلز النازية:
أكثر ما يميز الإعلام السوري الرسمي الحضور المميز لمدرسة غوبلز النازية في الكذب... اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس. سياسة تعني لنا كمراقبين ومحللين وإعلاميين أننا سنعاني تعتيماً إعلامياً وفقراً مريعاً في المعلومات التي تمكننا من متابعة الأحداث في سورية. فالنظام، بهذا المعنى، يسعى إلى فرض أطروحته وسلوكه كي نضطر إلى التفكير فقط في روايته، ووفق مساراتها. لكن مثل هذه السياسة سقطت مع انفجار الميديا الرقمية ذات العمق الاجتماعي، بحيث بات الحظر على وسائل الإعلام من قبيل الغباء أو الوحشية الدموية الساعية لإبطاء الكشف عن أكبر قدر ممكن من الحقيقة بالسرعة المطلوبة.
التلفزيون الرسمي كان أول من سئل عن الوضع في درعا فأجاب: «الوضع طبيعي ولا وجود لمظاهرات».. وهو أول من بث شرائط «الملثمين» و«الشبيحة» الواحد تلو الآخر، بدءاً من بانياس واللاذقية وانتهاء بحمص ودمش وحماة.. وهو أول من قال بسقوط رجال أمن وجيش تبين فيما بعد أن النظام هو من قتلهم وألقى بجثثهم في أحراش الأشجار لرفضهم إطلاق النار على المواطنين.. وهو الوحيد الذي أعلن عن عصابات تستهدف المدنيين.. فأين هي المصادر المتخصصة أو المحايدة أو الإعلامية في نقل الأحداث؟ وكيف يمكن أن يكون الخصم للشعب هو المصدر الموثوق للعالم؟ لكن مع الإعلان رسمياً عن اللجوء إلى الجيش يكون النظام قد انكشف تماماً، وارتاح من عناء الفبركات والتبريرات الزائفة.
رُبَّ سائل يسأل: هل تبرر شخصية النظام كل هذا الفزع والكذب والتخبط؟ أو ما الذي يخيف أقوى نظام أمني في العالم العربي إلى الدرجة التي تجعله يلجأ إلى القتل منذ الوهلة الأولى؟ أو لماذا لا يحتمل النظام مسيرة أو مجرد اعتصام لبضعة مئات أو آلاف حتى ولو في الجامع حتى يضطر إلى إطلاق النار عليها أو الغدر بأهلها على حين غرة، وحتى بعد التفاهم مع أركانه على فضها كما حدث في تلبيسة والجامع العمري وغيرها من المناطق؟
نظام مقبول لكنه محرج:
حتى هذه اللحظة، ورغم الإدانات الدولية، فما من أحد، من القوى الرسمية، يسره غياب النظام. والواقع أنه ما زال يحظى بالقبول الدولي والإقليمي. فحتى الدول المناهضة للنظام على خلفية طائفيته وتحالفاته مع إيران تبدو مضطرة لتجرع المرارة لخشيتها من البديل. أما دولياً وإسرائيلياً فإن الإخلال بالتوازن الذي يوفره النظام للمنطقة كـ: «أمن إسرائيل.. العراق.. إيران.. لبنان.. احتواء المقاومة والتحكم بحجمها بحيث لا تهدد الاستقرار.. محاربة الدين.. القدرة على التحكم والسيطرة.. الخوف من البديل.. » يثير رعباً يصل إلى حد الشعور بالكارثة من زواله.
بالتحالف مع إيران وعمق نفوذه في لبنان فإن سقوط النظام سيهوي بكل ثقله على الساحتين العراقية واللبنانية. ولا شك أن أول الضربات وأقساها ستتلقاها إيران والمشروع الصفوي برمته مع خسارة أقوى ركائزه وأشدها ثباتاً. بل إن سقوط النظام سيلقي بظلاله الكثيفة على الوضع الإيراني الداخلي بحيث تصبح إيران وأطروحات ولاية الفقيه وتحالفاتها على كف عفريت. أما الساحة العراقية فستتجه إلى الحسم مع الحكم الطائفي فيه، مستفيدة من فراغ القوة على الصعيدين الأمريكي والرافضي. وتلك هي الطامة الكبرى على الساحة اللبنانية فيما يتعلق بمصير حزب الله كرأس الحربة في المشروع الصفوي وقاعدته العسكرية المتقدمة.
أما إسرائيل الفزعة من غياب النظام السوري فقد بدا التخبط عليها جلياً في ضوء تباين التحليلات ما بين متظاهر بتأييد مطالب الشعب السوري كخطوة استباقية في رصيد مستقبلي يبعث برسالة إلى السوريين مفادها أن إسرائيل لا تضمر عداوة لهم، مشفوعة بدعوات لإسقاط الإمدادات الطبية والغذائية جواً على أهالي درعا المحاصرة، وما بين فزع إلى حد وصف الرئيس السوري بـ «ملك إسرائيل». أما القوى الوطنية الفلسطينية واللبنانية فستكون الأبلغ سروراً بزوال النظام رغم أن صورتها البارزة اليوم تبدو الأشد دفاعاً عنه.
مصادر القوة والضعف داخل النظام:
إذن؛ الثورة السورية تخوض ملحمة ضد النظام تمس قضايا الأمة الكبرى في الصميم أكثر من كونها ثورة حرية لشعب فقدها منذ عقود طويلة. لكن إذا كان الموقف الدولي يصب في خانة النظام، طوعاً أو كرهاً، فإن نقاط الضعف عنده أكثر من مريعة.
فما بعد حرب تشرين أول / أكتوبر 1973م شرع النظام بالسيطرة الطائفية على مفاصل القوة في الجيش السوري، وأبعد ما اعتقد أنهم ضباط قد يشكلون خطراً عليه. لكنه، بطبيعة الحال لا يمكن له أن ينجح ببناء جيش طائفي لأكثر من سبب. لذا فالجيش بالنسبة للنظام موضع ريبة حتى هذه اللحظة، بسبب اشتماله على سنة عرب وأكراد يتميزون غيظاً على النظام ذي البنية والسياسات الطائفية وحتى الشخصية الطائفية التي تستعلي على الطوائف الأخرى بفعل ما تمتلكه من سلطة ونفوذ وامتيازات عرفية تجعلها فوق أية مساءلة من أي نوع كان. ولا أدل على ذلك من سلاح الجو السوري الذي يخلو من أي ضابط أو منتسب للسنة من أي درجة. وحتى الحرس الجمهوري يشتمل على فئات سنية لن تخشى من اقتناص الفرص إذا ما أتيحت لها الفرصة للإفلات من قبضة النظام. وفي المحصلة فإن غالبية الجيش ليست مؤهلة لِأنْ تشكل رافدا للنظام أو حتى خطراً على الثورة في سوريا.
أما المخابرات العامة والأجهزة الأمنية الخمسة التي تتفرع لتصل إلى 13 جهازاً فهي أقرب إلى العصابات من أن تتسم بالمسؤولية أو التخصص. فالأمن السياسي، والأمن الجنائي (الوحيد الذي يرتدي لباسه الرسمي)، وأمن الدولة، والأمن العسكري... كلها أجهزة تعاني من عجز في التنسيق فيما بينها. وكل منها يشبه الدولة داخل الدولة. وأكثر ما تشتغل به هو النهب والتسلط ودفع الأتاوات والتحالف مع عصابات المجرمين وتجار الخمور والمخدرات وتكديس الثروات. يساعدها في ذلك إعفاؤها، بموجب قانون الطوارئ، من أية مسؤولية قضائية أو قانونية. ولقد كان طريفاً أن يعرِّف أحد ضباط الأمن عن نفسه في حادثة الحريقة، الحي التجاري، بالعاصمة دمشق بغطرسة حين قال لأحد الغاضبين: «أنا أمن وْلاَ ».. يعني فوق المساءلة! وفي ضوء الانهيار السريع لقوى الأمن في الثورة المصرية، وكذا الليبية، فمن المرجح أن يكون انهيار مثل هذه الأجهزة المهترئة أسرع فيما لو تدفقت الحشود البشرية إلى الشوارع.
هكذا تبقى القوة الوحيدة بيد النظام محصورة ببعض وحدات الجيش أو سلاح الطيران. لكن الأقوى في دعامة الجيش هي الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس. وهي في الواقع وحدات سرايا الدفاع التي شكلها رفعت الأسد، عم الرئيس، منذ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وورثها ماهر بعد طرد عمه من البلاد. بالإضافة إلى ما يسمى بـ «الشبيحة»، بنسبة تزيد عن 90% من الطائفة النصيرية، وقليل من المجرمين والقتلة وذوي السوابق والعصابات، من شتى الطوائف، وحتى المرتزقة من حزب الله والحرس الجمهوري الإيراني. هؤلاء هم رأسمال النظام الذين يواجهون الثورة السورية بكل الوحشية التي خبرها العالم، ويعيش وقائعها المأساوية كل يوم.
الحليف الاجتماعي:
أما على الصعيد الاجتماعي فثمة طبقة ليبرالية تتحالف مع النظام. وهي شريحة ظهرت بعد حرب الخليج الثانية، لاسيما بعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل صيف العام 1994م. وبصورة أشد دقة، فهي الشريحة التي خرجت من رحم الليبرالية التقليدية، وباتت تعرف باسم الليبرالية الحديثة (New Liberal).. شريحة تشمل المدنيين والعسكريين، وتضم في ثناياها، علماء، ومثقفين، ومفكرين، وكتاب وصحافيين وإعلاميين، وطلبة وعلماء دين، ورجال أمن ومال واقتصاد وسياسة، ومتخصصين وخبراء ومتسلقين وخونة وعملاء.. كلهم يحظون برضا أمريكي وصهيوني وغربي، وبطبيعة الحال عربي رسمي.. بل أن لهم حضوراً اجتماعياً، ومؤيدين ومريدين في صفوف عامة الناس.
هذه الشريحة في الحقيقة موجودة في كافة الدول العربية بلا استثناء، بما فيها السعودية. ولا علاقة لها بالأطروحة الليبرالية والرأسمالية كمنظومة حياة، بقدر ما هي شريحة تروم الربح والمتعة والنفوذ بأي ثمن، ومستعدة للتحالف مع شياطين الإنس والجن بعيداً عن أية مرجعية عقدية أو أخلاقية أو إنسانية. بل إنها الأشد عداوة للدين ولقضايا الأمة. وتنشط في المجال الأمني والعسكري والتجاري والاستثماري والبنوك، وتهيمن على أغلب وسائل الإعلام والاتصال الخاصة. وتمتد علاقاتها المالية لتبلغ رؤوس المافيا الدولية والحركة الصهيونية. وهي ذاتها التي تقود الثورات المضادة الآن في مصر وتونس، وهي التي تحول دون تنحي علي عبد الله صالح في اليمن، وترتبط مع النظام الليبي بعلاقات مالية واقتصادية أخطبوطية، وهي التي تهيمن، بشكل مريع، على الحياة السياسية والأمنية في الجزائر.
المسار الاجتماعي للثورة:
من العجيب القول إن سياسة النظام تسببت برفع سقف المطالب! إذ إن كل الثورات العربية ابتداء من الثورة التونسية مروراً بالمصرية وانتهاء بالثورتين الليبية والتونسية ابتدأت بمطالب يسيرة ما لبثت الحشود البشرية الكبرى والمواجهات اليومية مع النظم أن بلورتها في صيغة مطلب مركزي تمثل بالشعار الشهير الذي رفعته نقابة المحامين المصرية: «الشعب يريد إسقاط النظام».
وفق هذه الوتيرة ابتدأ التوتر في درعا على خلفية اعتقال 14 طفلاً تقع أعمارهم بين 9 - 14 عاماً، ليتم تحويلهم على الفور إلى دمشق. فلما راجع الأهالي مسؤول الأمن في المدينة تلقوا جواباً لا يعكس إلا وحشية دولة مسكونة بهاجس الخوف والغطرسة: «انسوا أن لكم أولاد»!!! أما تحرك وجهاء المدينة نحو المحافظ فيصل كلثوم فلم يزدهم إلا خساراً. فلما اجتمعوا بالمحافظ خلعوا عماماتهم ووضعوها على الطاولة كتعبير عن حسن النية والمسالمة. غير أن المحافظ ألقى بالعمائم على الأرض ضارباً بعرض الحائط كل كرامة بشرية أو رمزي ثقافي اعتاده الناس منذ مئات السنين. من هنا بدأت شرارة ميادين درعا.. ومن هنا بدأت الدماء تسيل.
لم يطل الوقت حتى امتدت المواجهات على طول خط الفرات.. الجزيرة.. الدير والحسكة والقامشلي إلى ما وراء دجلة. بالإضافة إلى ريف دمشق (خاصة حرستا ودوما) وحوران، وأخيراً السويداء. خط يتميز بتركيبة اجتماعية قبلية أو عشائرية تشمل حتى مدينتي حمص وحماة فضلاً عن ريفهما المشتعل، وله السبق في إسقاط الدعوة الطائفية. أما النظام فقد كانت خسارته فادحة. إذ إن الإهانة التي تلقاها وجهاء درعا كانت تعني فقدانه لأحد أهم أدوات السيطرة والتحكم التي تتم عبر التفاهم مع شيوخ العشائر وكسبهم في تهدئة الناس. هؤلاء يمثلون الحاضنة الأمنية للنظام، ولما يتحولوا إلى خصم فعلى النظام السلام.
لذا؛ حين تفجرت الأحداث في هذه المناطق كانت المفاجأة صاعقة على النظام الذي لم يستطع البتة السيطرة عليها، لا عبر أجهزة الأمن ولا حتى الجيش. بل إن الحالة التي صار عليها هذا الخط الغاضب أن النظام لم يستطع الدفع بوحدات «الشبيحة» إليه لاستعادة السيطرة.. والأدهى أنه دفع بالمدن الداخلية والساحلية إلى الاحتجاج.
هنا يبدأ الخط الثاني في التحرك الجماهيري ذي الطابع الفردي. إذ إنه خط ذو تركيبة مدينية متنوعة المشارب، وتعج بمراكز القوى، ويصعب، في بلد ذي طبيعة أمنية، أن يتحرك بالسهولة ذاتها التي تحرك بها الخط القبلي الريفي ذو الحراك الجماعي. لذا ظل الحراك الشعبي، رغم قوته في أحايين كثيرة، فاقداً للقوى المدينية المنظمة. وهذا ينطبق بالدرجة الأساس على مدينة دمشق. أما مدينة حلب، التي ما زالت تحتفظ بقدر كبير جداً من أصالة التركيبة الاجتماعية فيها، فتخوض حرباً أمنية طاحنة استهلكت حتى اللحظة نصف أو ثلثي المخزون الأمني للنظام، واستنزفت قدرته على الحراك في مناطق أخرى كخط الفرات.
الخط الثالث الذي تميز بشراسة المواجهات مع السلطة هو الخط الساحلي، ممثلاً بمدن اللاذقية وبانياس وطرطوس وريفهما. ولعل السبب في ذلك يعود إلى تمركز ديمغرافيا «الشبيحة» والفرقة الرابعة فيها تاريخياً. بينما لم يستطع النظام –مثلاً- أن يدفع بهؤلاء إلى خط الفرات وخاصة مدينة درعا التي اضطر إلى مهاجمتها باستعمال القناصة والفرقة الرابعة وكذلك الفرقة الخامسة التي امتنعت عن إطلاق النار على السكان، واشتبكت مع الفرقة الرابعة، فضلاً عن أنباء تتحدث عن انحيازها، كلياً أو جزئياً، إلى جانب السكان.
عسكرة الثورة بشروط:
هذه صورة تقريبية لحال الثورة السورية والنظام السياسي. ولو أخذنا بعين الاعتبار مدى الجدوى من اللجوء إلى السلاح، فإن السؤال المنطقي سيكون على النحو التالي: في ضوء التجارب الدموية السابقة للنظام، هل سيؤدي حمل السلاح إلى زيادة معدل الخسائر البشرية أم إلى الحد منها؟
لا شك أن الجواب على السؤال لا يكفي للإجابة بنعم أو بلا ما لم تتوفر صورة دقيقة عن شخصية النظام وشخصية المجتمع والبنى الفاعلة فيه أكثر مما قدمنا له. مع ذلك فإن الكفة ما زالت تميل إلى نبذ الفكرة، ليس بسبب دموية النظام بقدر ما يبدو الأمر متعلقاً بالحاجة إلى المزيد من:
(1) تعرية النظام وإسقاط أوراقه الأمنية والإقليمية والدولية، التي ما زلت تشكل بعض دروع الحماية الفعالة له.
(2) رفع الحصار الأمني الخانق الذي يحول حتى هذه اللحظة دون انعتاق باقي الديمغرافية الاجتماعية وتمكينها من النزول إلى الشوارع كما هو الحال مثلا في مدينة حلب، وإلى حد كبير في دمشق.
(3) وأخيراً الشعور بامتلاك القدرة على حماية القوى الاجتماعية الفاعلة، على اختلاف مكوناتها، بما يكفي ليس لاستكمال نزع الشرعية عن النظام، فقط، بل ردعه عن استخدام وسائل القوة المسلحة أو تجريده منها. فلو نجحت الثورة في قطع هذه الحواجز، واستمر النظام في دمويته وحماقته فسيكون من المنطقي حينها محاكاته بالطريقة التي يرغب بها. لكن حذار من الوقوع في الفخ الليبي. 

المصدر: صحيفة المصريون

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع