عاصي أبو نجم
تصدير المادة
المشاهدات : 3308
شـــــارك المادة
يا لله ما لنا غيرك يا لله.. تهتف حناجر السوريين، مبتهلةً للقوة الإلهيّة كآخر ملجأ لهم، في حربهم الوجوديّة ضدّ نظامٍ ديكتاتوريٍ بربريٍّ من جهة، وضدّ منظومة الأخلاق النفعية التي تسودُ العالم من جهةٍ ثانيةٍ، شديدة التمركز حول المصلحة كقيمةٍ وحيدةٍ، ترتسم من خلال دلالاتها وتجليّاتها حدود وإمكانيات التدخل والمساعدة الدولية. اشتعلت الثورة السوريّة منذ عام تقريباً، مدفوعة بموجةٍ ثوريةٍ تحرريةٍ ألهبت المنطقة العربية، انطلاقاً من لهبٍ أضاء جسداً بشرياً مكتوياً بنار القهر ضدّ الذلِّ والإهانة المتعمّدين للحياة في صورة الذات الإنسانية، المسماة اعتباطاً "بوعزيزي"، وامتد الحريق إلى المقهورين والمظلومين على سطح الكوكب الأزرق شديد الفرادة في الكون، فثاروا ضدّ الطغيان، ضدّ تجريدهم من حقوقهم في الوجود الكريم، وأسقطوا أنظمةً قامت فوقهم وضدّهم عشرات السنين، دأبت خلالها على سرقتهم وامتصاص النبض من عروقهم، والمتاجرة بهم كرقيقٍ وعبيد. فسقط نظام ابن علي التونسي من زخم وقوة المفاجئة تقريباً بالكامل، وتداعى نظام مبارك المصري، وضحّى برئيسه بعد أن تلقى ضرباتٍ شديدةٍ، أحرز خلالها المنتفضون حقوقاً منسيَّةً للبشر ومازالوا منتفضين حتى استردادها، رغم استعادة تحالف العسكر رجال الأعمال لأنفاسهم. وذهب الديكتاتور الليبي معمّر القذافي كراكوز العرب ومُضحِكهم هو ونظامه أدراج الرّيح في الصحراء، مع استعادة النظام العالمي لزمام المبادرة، من خلال توظيف الحرب لإسقاطه، بما يترتب عليه من خروجٍ من الباب ودخولٍ من النافذة للقوى العظمى. ثم كانت اليمن تجربةً جديدةً أُديرت فيها المعركة مع الشعب الثائر بمناوراتٍ ودهاءٍ شديدين، كدهاءِ من خرج من ذلك اللَّهب العربي بحروق علي عبد الله صالح الجسيمة دون أن يموت، مع إبقاء النظام اليمنيّ تقريباً مثلما كان، ضمن جراحاتٍ تجميليةٍ لجسد الرئيس المحروق ولنظامه. بنفس الفترة تقريباً اشتعلت النيران في معظم البلاد العربية، استدركها المغرب بتنازلاتٍ كبيرةٍ تمسُّ السلطة السياسية، والخليج بتنازلاتٍ ماديةٍ تمسُّ الثروة. إلا سوريا فكانت استثناءً. الاستثناء السوري: ألهبت الثورات مخيّلة الشعب السوري الرازح تحت ثِقل سلطة الأسد ونظامه الأمنيّ العسكريّ المتورم، الذي يحكم من خلال استدامة الفقر والفساد، منذ عشرات السنين، بنى خلالها شبكة من العلاقات والمصالح تميَّزت بها الديكتاتوريّات التي عاشت بعد الحرب العالمية الثانية في دهاليز الحرب الباردة، وصار للسلطة السورية موقعاً ومكانةً في خريطة العالم، وإن تأثرت قليلاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، فتراجعت تكتيكياً وحاربت في الكويت ضدّ العراق الشقيق، مع التحالف الدولي ضمن الزعامة العالميّة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية المنفردة بذاتها بقيادة العالم. وراوغت السلطة السورية وتقربت علناً وسراً من إسرائيل مراراً، وهي العدو الاستراتيجي لها، وحاولت امتصاص تلك الموجة المدوّية من تغير العلاقات الدولية، إلا أنها كانت قد جذّرت مصالحها في غير منطقةٍ من العالم العربي والإسلامي، وصارت لاعباً رئيسياً في المنطقة، تُوكَل إليه المهام القذرة بوصفه لاعباً جلفاً شديد القسوة والغباء. إذا بقيت السلطة السورية في هرم الدولة واخترقتها نزولاً إلى ضمائر الناس وأفئدتهم، وكانت في الخارج تمارس المناورة مع الجميع في معارك الجميع ضدّ الجميع، فهي مع الاتحاد السوفيتي ضدّ أمريكا في فلسطين، ومع إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في لبنان، ومع أمريكا ضدّ العراق في الكويت، ومع السعودية ضدّ مصر بعد كامب ديفيد، ومع حزب العمال ضدّ تركيا، ومع إيران ضدّ العراق، ومع حماس ضدّ فتح، ومع القوات ضدّ المقاومة اللبنانية، ومع حزب الله ضدّ إسرائيل، ومع إيران ضدّ الخليج، ومع الجميع ضدّ شعبها الشعب السوري، إذْ أنها وفي مرحلة الأسد الأب قامت بتعرية المجتمع السوري، ونهبه وإفقاره عبر الدولة التي كانت المُشغّل الأكبر للسوريين وربِّ عملهم، في ما يسمى رأسمالية الدولة، وكمَّمت الأفواه وحظرت السياسة والأحزاب، وأغلقت ميدان العمل العام أمام الناس، واستولت على النقابات والجيش، واعتقلت المعارضين وعذبتهم وقتلتهم، ودمّرت مدناً على سكانها، في حربها المفتوحة ضدّ الشعب، فسادت وعاثت فساداً. في عهد الأسد الابن استمر النهج نفسه، ولكن مع إيصال الناس إلى حدِّ الجوع وما بعده، ضمن سياسةٍ تتّبع نصائح بنك النقد على هواها من دون اتفاقٍ مكتوب، أي أنها تُنفذ الشطر الليبرالي في الاقتصاد، من خلال بيع القطاع العام، وإلغاء دور الدولة ورعايتها في ميادين تنموية شديدة الأهمية والحساسية للشعب كالزراعة والصناعة، لصالح التركيز ودعم النشاطات الريعية كالبنوك والاستثمارات العقارية، كل ذلك دون إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وإدخال الضوء إليها، عبر السماح لمنظمات غير حكومية أو أحزاب أو وسائل إعلام بالعمل، أي إبقاء مخالب الدولة الأمنية دون تشذيب، مع التجويع. تشابكت مصالح الدول والأنظمة وشهدت تعقيداتٍ جديةٍ مع ترابط الأسواق وانفتاحها، وكان للسلطة السورية في السنوات العشر الأخيرة دوراً مهماً في فتح مجالاتها الحيويّة أمام أسواق العالم، في مسعى لإرضاء الكثيرين بعد اغتيال الحريري وخروجها المخزي من لبنان، وتم ذلك على حساب السوق المحلية، فتلاشت الزراعة والصناعة السوريتان أمام التجارة والبضائع المستوردة، وتكدّس السوريون في المدن بعد إمحال الريف، وجاعوا جماعةً، بعد أن غرقت سوريا بالعاطلين عن العمل إثر الأزمة العالمية التي طالت الخليج العربي فتوقف السفر برلك السوري إليه. وتكدّست أسباب الثورة الاجتماعية وتراكمت واحتقنت، وأذكتها دائماً أجهزة الأمن السورية كوسائل إذلال وإهانة وتسلّط على الناس بفرض الأتاوات على أعمالهم وحيواتهم، وحرمانهم من أدنى حقوق الإنسان المتاحة عبر شبكات التلفزة في غير مكانٍ قريبٍ من العالم. بدأت الثورة في منتصف آذار 2011م سلميّة وعفويّة وامتدت خلال أيام لتُغطي كامل التراب الوطني، وفتحت السلطة كل أبواب الجحيم أمام الثوار، بمعدلات قتلٍ واعتقالٍ وتعذيبٍ فاقت حدود التصور من البربريّة والهمجيّة، وهي تفعل ذلك علناً مستعينةً بحلفائها الرّوس والإيرانيين، الذين لهم أوضاع مماثلة في القمع والاستهانة بحقوق الإنسان، لكنّهم اليوم بدؤوا يخوضون الحرب ضدّ الشعب السوري على الأرض، حيث حشر الدب الرّوسي نفسه في مكانٍ ضيقٍ جداً فيما يعتقد أنه لأغراض استعراضية انتخابية، خلفه انسحاب أمريكي فرنسي من الساحة لأغراضٍ انتخابيةٍ أيضاً، إذ أن الفرنسيين والأمريكيين يلجؤون إلى الداخل لإدارة عروض الانتخابات، في حين أن الرّوس وبعد إفلاسهم الداخلي وترشّح بوتين للمرّة الرّابعة لا يجد أمامه إلا العرض الخارجي لكسب شارعٍ بدأ يظهر تملمُله العلني إثر مظاهراتٍ عمَّت روسيا احتجاجاً على تزوير نتائج الانتخابات التشريعيّة هناك منذ شهرين مما ينذر بوصول المد العربي إلى هناك. فقام بوتين باستخدام حق النقض مرتين بعد إخراج حاملة طائراته الوحيدة إلى المياه الإقليمية السورية لترسو على شاطئ طرطوس، كما فعلت من قبله البوارج العسكرية الإيرانية، والتي بدورها تقاتل على الأرض من خلال مقاتلين بدأت تظهر صور المعتقلين منهم لدى الثوار السوريين. هكذا أعلنت روسيا وإيران والصين علناً الحرب على الشعب السوري، في معركته لإسقاط نظام حكم متكبر شديد الطغيان، بغرض إقامة دولةٍ تحترمهم كبشر، وتحقق لهم جزءاً من أحلامهم، وترك الغرب الشعب السوري الأعزل في معركته بحجة فيتو روسيا تارةً، ولأسباب انتخابيةٍ تارةً أخرى، وبسبب من أزمةٍ ماليةٍ عالميةٍ. لكن ما يجري فعلاً هو اتفاق ضمني عالمي على وقف الربيع العربي، ومنعه من التسلل إلى شعوبٍ أُخرى، وتهديد أنظمةٍ تتشابه دائماً حين يتعلق الأمر بنهب الشعوب وسرقة أحلامهم، وإبقائهم دوماً في حظائر تمنعهم من رؤية الحياة الحقيقية، خارج أُطر السيطرة الرأسماليّة. وليس بعيداً عن الذاكرة، كيف تُركت راوندا تتقاتل حتى سقطت مضرجةً بدمها مع مليون قتيل في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، ولا كيف تُرك الفلسطينيون يموتون أمام عدسات كاميرات العالم وضميره الحي. كم يبدو اليوم واضحاً وجليّاً إمكانية تفاعل شعوب الأرض لكسر قيودها، وإلغاء حالة الوهم التي تحكمهم، في صورة دولٍ وأحلافٍ تتبادل فيها أطقمٍ إداريةٍ مواقع السلطة والثروة. كم يبدو السوريون اليوم عبر رقصهم وغنائهم في تشييع شهدائهم الذين قضوا تحت وطأة آلة الموت السلطويّة أقرب إلى الفطرة الإنسانية من شعوب أخرى تحسدهم بخوف وترقب، كم يبدو السوري اليوم مقاتلاً أسطورياً في ملحمة يدفع فيها من دمه كي لا تسقط الإنسانية.
المصدر: صباح سوريا
عيسى الشعيبي
عبد الستار قاسم
عبد الوهاب بدرخان
حسان الحموي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة