محمد يوسف العلي
تصدير المادة
المشاهدات : 2943
شـــــارك المادة
ليس أصعبَ من أن تكون مسكوناً بالمدن، تخرج منها فتلاحقك بظلها وشمسها، بأرضها وسمائها، بصيفها وشتائها، تلاحقك بكل تفاصيلها، وكأنها مَن سكنتك وليس أنت!. تلاحقك وإن جمعت حولك أهلك وعشيرتك وذويك لتستوطنوا أرضاً غيرها، لأنكم عندما تجتمعون في المساء - ليؤنس بعضكم بعضاً- لن يكون حديثكم إلا عن تلك المدينة. في ليلة شبه صيفية صعدت إلى السطح لأجلب شيئاً ما، ولا أدري ما الذي أنساني ذلك الشيء لأجلس في زاوية قريبة من السماء، منذ زمن بعيد لم أنظر إلى السماء ولم أبحث عن القمر، ربما لأننا نحن -السوريين- لم يعد يعنينا من رقعة السماء إلا إحصاء عدد الطائرات التي ستقصفنا. في حلب الشرقية كان صديقي يحسدني على سطحنا الذي يفترش السماء ويتذمر من بيته الكبريتي الذي لا يطل عليه قمر ولا تشع عبر نوافذه نجوم، ولا أدري لماذا خطر على بالي عنوان رواية لم أقرأها لشهلا العجيلي "سماء قريبة من بيتنا"، ترى هل هناك سماء قريبة وسماء بعيدة؟ هل هناك نسيم صحيح و نسيم عليل؟ وهل تختلف نجوم مدينة عن أخرى؟ ولماذا فضلت ميسون بنت بحدل خيمتها التي تشبه خيام اللاجئين على قصر معاوية، ولماذا أغرق امرؤ القيس معلقته بذكر الأماكن. عندما أراد نيرون أن يعيد بناء روما أضرم النار بأحيائها القديمة وأخذ يراقب من برجه المرتفع مشهد اشتعال المدينة بسكانها وسط صراخ الضحايا، بينما كان يعزف على آلة موسيقية ويدندن أشعار هوميروس عن حريق طروادة.. واتجهت أصابع الاتهام إليه في افتعال الحريق وتعالت من حوله الأصوات المطالبة بالقصاص، فبحث عن يد يقول إنها التي اقترفت، ولم يكن أمامه سوى المسيحية الحديثة في روما، حيث لاحق المسيحيين واضطهدهم وسفك دماءهم وقدمهم للوحوش الكاسرة و أحرقهم بالنيران أمام أهل روما، وعاش المسيحيون في سراديب تحت الأرض وفي الكهوف هرباً من نيرون، وما زالت مساكنهم وكنائسهم إلى الآن يزورها السياح. نحن اليوم لا يعنينا من روما سوى التاريخ الذي يعيد نفسه في حلب، عاصمة يمحاض وحاضرة بني حمدان، تلك المدينة التي نزل المتنبي ساحتها فأنشد: " كلما رحب بنا الروض قلنا..... حلب قصدنا وأنت السبيل" ، وأطل أبو فراس من أسوار قلعتها فقال: " كأنما الأرض والبلدان موحشة ..... وربعها دونهن العامر الأنس " حلب اليوم هي روما البارحة غير أن نيرونها أوكل مهمة إحراقها لأصحاب الدماء الباردة والعمائم السوداء بعد أن استعصت عليه، ولم تكن له في ذلك غاية نبيلة أو عذر سوى جعلها مستعمرة روسية أو مقاطعة إيرانية، فدمر قلعتها وجامعها وأشعل أسواقها وهدم أبوابها وحرق سكانها، وجعل أرضهم ملتقى جيوش العالم وسماءهم معرض طائرات، ولاحقهم في الكهوف والملاجئ بالصواريخ الارتجاجية، وأحال ليلهم صبحاً أبيض بقنابل النابالم فقط لأنهم إرهابيون .. وأما أطفالهم فإرهابيون بالفطرة !! درب حلب لم يعد "كلّو شجر زيتون" وإنما بات مزروعاً بالألغام، مرصوداً بالصواريخ، محاطاً بالمدافع، وسماؤها هجرتها البلابل واستوطنتها الطائرات، ويتربص أمام أبوابها ذئاب العالم بأسره. أما كل حلبي فيها فهو إما شهيد أو فقيد أو جريح أو ثكلاء. أبواب حلب التسعة وقلعتها العتيقة وخمسة ملايين حلبي شكلوا معالم هذه المدينة تشرد نصفهم في الأصقاع، أما نصفهم الآخر فقد انشطر بين شطري المدينة وغُلقت عليه أبوابها التسعة. حلب هي المدينة التي لا تنام سابقاً، مدينة الظلام حالياً، موطن الأدباء والشعراء قبلاً، مرقد الشهداء تواً، " أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا..... أخنى عليها الذي أخنى على لبد"، لم تعد أم المحاشي والكبب بعد أن حاصرها الجوع، أما طريق الحرير الذي يمر بمعاملها فقد أصبح رسماً دارساً بعد أن تعرضت معاملها للنهب والحرق والدمار. إنها حلب الثكلاء، حلب الشهداء، و الرائحون إليها سرقوا العنب والتفاح, في الحقيقة لا ألوم ميسون على اختيارها ولا امرأ القيس على مطلع معلقته، ولو كانت لي معلقة لما كانت أبياتها إلا شوارع حلب وأبوابها، ووددت لو كانت ليالي الأنس في حلب تعود لأسهر ألف ليلة وليلة أرقب فيها سماءً قريبة من قلعتها.
نور سورية
طريف يوسف آغا
علي صدر الدين البيانوني
عبد الرحمن العشماوي
سلمان السنيدي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة