..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

مسجد مطار صبيحة

رميساء خلابي

١٥ يناير ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 9040

مسجد مطار صبيحة
1.jpg

شـــــارك المادة

كان موعدنا مسجد مطار صبيحة الدولي باسطنبول. كن يفترشن معاطفهن و ينمن في عمق..
كان واضحاً جدا من طريقة نومهن أنهن لم بذقن طعم النوم منذ أيام.
يلتفن في ملاءات خشنة رغم أن المسجد كان مكيفا.. شنطهن الكبيرة موزعة بشكل عشوائي في كل أرجاء المسجد الصغير..


ها هو آذان الظهر يرتفع شيئاً فشئياً.. تستيقظن، تتوظأن بتناوب ثم تهرعن لإقامة الصلاة.
لا شيء يخلفهم عن موعد الصلاة.. لا البرد الذي يشعرن به، و لا النعاس الذي يسد أعينهن فيفتحنها في تثاقل محاولاتٍ رؤية السجادة و السبحة.
Buyur cocugum  :تقترب إحداهن -امرأة في متوسط العمر و قد دخلت لتوها إلى المسجد- من ابن إحداهن  وتقدم إليه عصير رمان تظاهر الطفل بعدم رغبته في العصير، حاول أن يوضح للسيدة الطيبة أنه لا يريده، تمتم كلمة " شكراً " كي يصرفها عنه، ثم أضاف متثاقلاً " لا أريد ". يبدو أن السيدة مصرة على تناوله للعصير..
لكن لغة الطفل الوديع حالت دون أن تستوعب السيدة التركية منه شيئاً.
مد يده مستسلماً والتقط علبة العصير من يديها وابتسم..
كان الطفل ابناً لسيدة ترتدي خماراً أخضراً ومعطفاً أسوداً أتت قبل ساعتين مع ابنتيها وطفلها، وكالبقية تماماً غطوا في النوم إلى أن رفع آذان الظهر.
أحاول أن أبقى صامتةً وأنا أراقب ماذا يجري في المسجد. أريد أن أتأكد فقط أن كل القابعات هنا من سورية. في العادة أسعى كي لا تحدثني إحداهن دون حاجة.
لا رغبة لي في سرد حكايتي الطويلة على عابرة لن أرى وجهها مرةً أخرى، ولا شهية لي في الاستماع إلى أحاديث الكثيرات منهن عن السياحة والتسوق في تركيا.
لكن الوضع يختلف مع أم سورية تلف أبناءها حولها ولا تكاد تتحدث إلا اضطراراً. 
أفتح حاسوبي الصغير وأبدء في قراءة إحدى الروايات المترجمة التي اقترحها علي زوجي.
يبدو أن جميعهن يتحدثن باللهجة السورية. كان واضحاً من طريقة لفهن للخمار أنهن عربيات أو على الأقل لسن تركيات.
لأن التركيات اعتدن أن يرفعن خصلات شعرهن إلى مستوى يسمح بثبات الخمار على الرأس دون حاجة لوضع الدبابيس.
تتوسد إحدى العجائز معطفي و تستلقي نائمة..
ماذا تفعلن هنا؟ من أين أتين؟ و إلى أين تذهبن؟
تهاجم ذهني أسئلة صحفي بسيط أتعبه الفضول لكن سذاجة أسئلته لا تشفي غليل ما يبحث عنه.
كيف يمكنني أن أحدثهن؟
شعرت فجأةً أنني في مهمة وكلتها لنفسي، و أنني مسؤولة عن اكتشاف حقيقة الوضع السوري من سوريين لا من قنوات الإعلام التي تتنافس على الصورة الصادقة.
الصورة الصادقة بين يدي الآن، سيدات سوريات يفترشن معاطفهن وينمن. مرهقات.. وكأنهن ناجيات من الموت.
تفتح إحدى الفتيات باب المسجد مستعجلة وتسأل سيدة تجلس القرفصاء وتسبح، عن موعد صلاة العصر 
" Ikindi namazi kacta okunuyor ?"
لا أكاد أرى السيدة السورية بشكل واضح.. هناك جدار على شكل أسطواني يفصلنا.. أغتنم الفرصة وأتطوع بتقديم الإجابة عوضاً عنها
"birazdan okunur "
 تلتفت إلي وتبتسم شاكرةً.. أدرك أن هذه قد تكون فرصتي الأخيرة في فتح حوار مع إحداهن.
فأنا لا أعلم في أي وقت قد تغادرن المسجد.
أقترب منها رويداً رويداً وأطلب منها أن تراقب أمتعتي للحظات لأنني مضطرة للحديث في الهاتف خارجاً.
تتفاجأ كيف بي أتحدث العربية ثم تسألني
 " من أين أنت؟ " 
أجيبها دون أدنى تفكير أنا من المغرب
كنت أعلم أن أوجاعها كفيلة بأن لا تسألني شيئاً آخر.
كأن تسألني مثلاً كيف أتحدث بالتركية؟
أو ماذا أفعل في تركيا؟
و ربما تلتفت ككل النساء في فضول إلى خاتم زواجي وتبدأ في السؤال عن زوجي وعمله والله أعلم إلى أين تنتهي الأسئلة بنا.
عدت بعد لحظات قليلة وجلست هذه المرة قربها.
كانت تجلس إلى جانبها سيدة طاعنة في السن، كانت ملامحها قريبة إلى جدتي لأمي، كان حاجباها كثيفين وعيناها واسعتين لكنهما لم تكونا خضراوتين كجدتي.
كانت تنظر إلى وتسبح بصوت مسموع.
لعلكِ من سورية ؟
توجهتُ إلى السيدة بسؤالي وكأنني غير متأكدة من موطنهن نحن من سورية إدلب.
و تدرف دمعتين حزينتين ثم تواصل: أبناؤنا وشبابنا هناك تحت القصف.. زيتوننا أحرقه الرصاص.. بيوتنا.. لم تعد لنا بيوت.
نحن في اسطنبول منذ أربع أشهر.  إلى أين إن شاء الله؟
لم أر أن الدعاء لهم بالنصر قد يجمع قلبها المشتت بفعل الحرب.
كانت كلماتها كافية كي أدرك أن نساء سورية تهرب من أرضهن المعطاءة بحثاً عن الأمن، تاركات خلفهن كل أموالهن و أحبابهن..
 هذه أمي. كانت تشير إلي السيدة العجوز التي تشبه جدتي.. ثم تواصل: سنذهب إلى دبي عند أخي. أمي مريضة جداً، أصيبت بجلطة دماغية جراء الثورة ولا تذكر أي شيء، أجرينا لها عملية في مدينة أنطاكيا على الحدود التركية السورية، وقد أخذوا منا ما لم يكن في الحسبان من مال.
أخي متزوج ويعيش في دبي مع زوجته وأبنائه منذ سنوات، اقترح علينا أن تتعالج هناك
 شافاها الله.
أتمتمُ في خجل من نفسي..
من الحاسوب الذي أحمله..
من الهدايا التي ستسعد أمي وأختي..
ثم أضيف قائلة: الحياة صعبة في اسطنبول..
 تنظر إلي بعينين فارغتين، وكأنني وضعت يدي على جرح آخر لم يكن في الحسبان.
تتأملني قليلاً، تتنهد في عمق ثم تقول لي: نستأجر بيتاً صغيراً بقيمة 500 دولار، يضم أربعين نفراً..
أخي من يصرف علينا و قدر الله خيراً أن بعنا بعض أراضينا في سورية قبل الثورة بأشهر..
أريد أن أتمشى.
أخيراً تكلمت السيدة العجوز.. تحاول جاهدةً أن تقوم من فراشها، أمد يدي لها كي أساعدها لكن ابنتها تخبرني أن الطبيب نصحها بفعل ذلك بنفسها.
ها هما تغادران المسجد يداً في يد، وأبقى أنا متسمرةً في مكاني دون حراك..
أ هكذا يتحرك الثوار السوريون، يداً في يد؟
أكلهم ينهظون فجأةً هكذا ويذهبون إلى حيث لا نعلم؟
أعود إلى مكاني الأول.. إلى حاسوبي، أفتح الرواية من جديد.
لا شهية لي في متابعتها الآن..
أريد أن أكتب..
 أتكتبين؟ صوت نسائي آخر يقترب مني
 مم آه.. نعم.. أقصد سأكتب
 أنا من حلب، والكتاب يعرفون بعظهم البعض صديقتي
تبتسم وتمضي..

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع